دولة أخرى من دول «الزمن الجميل، مستهدفة»، وكما قال أمس أحد كبارها رئيس مجلس الشورى صفوت الشريف، الأمين العام لحزبها الحاكم منذ ٣٠ سنة، إنها «دائماً مستهدفة... لأنها متقدمة في كل الجوانب». مصر مستهدفة كما كان العراق مستهدفاً، لكن الحرب عليها مختلفة. وكما وصفها قيادي في الحزب الحاكم: «لم تعد حرب جيوش، لكنْ قنبلة هنا وتفجير هناك، تتخلخل الدولة، وتُرمى بذور الفتنة في أرضها الطيبة، كما فعل مرتكب مذبحة كنيسة الاسكندرية بالضبط». هذه عينة من طريقة تصوّر النظام لاعتداء الاسكندرية. تصور يبدو من سذاجته دعاية كوميدية عن «الدولة» التي لا يغلبها غلاب و«محسودة». لكن، كيف تستطيع المؤامرة اختراق جسد أمة بهذه القوة؟ كيف تعبر «الأفاعي» والأصابع الخارجية السدود العالية، ولا تضرب كنيسة أو مكاناً عمومياً، بل بناء المجتمع ذاته. كيف تفعل قنبلة كل هذا الشرخ؟ ولماذا لم تشرخ تفجيرات ١١ أيلول وتوابعها في لندن ومدريد، جسد الدولة والأمة؟ لماذا لم يقترح أحد هناك فكرة الدروع البشرية لحماية الكنائس، كما اقترحها وطنيون مخلصون ومسلمون لا يخفون تسامحهم؟
الدروع البشرية تعبير مكثف عن عدم الثقة في «الدولة»، وعن اضمحلال كل الفرص والاختيارات، الى درجة لم يعد فيها إلا التضحية. امرأة في عقدها الخامس اعترضت على جارتها المسيحية التي تصرخ تمنياً للهجرة، قائلة لها: «ونسيب الكنيسة لمين... نسيب الأديرة لمين». لم يهمها سوى الكنيسة التي «بناها أبوها». هي ترسانتها وقلعتها التي كلما تضخمت شعرت بالأمان. المجتمع طارد هذه السيدة وأدخلها محميّتها، لتشعر بالأمن خلف جدار أسقطته قنبلة ليلة رأس السنة بشكل انهارت معه أجهزة ضبط النفس. الدولة مرتبكة في الموافقة على فكرة «الدروع البشرية»، تقول إنها ستمنع المسلمين من الدخول الى الكنائس ليلة الاحتفال بعيد الميلاد حسب التقويم الشرقي. عقلاء اقترحوا الموافقة والتنظيم. وشخصيات احترفت التهييج الطائفي تريد تبريد المناخ المحيط بها، مثل الدكتور محمد سليم العوا، الذي رفض الفكرة، وقال إن «حماية الكنائس مهمة الأمن، وليست مهمة الدروع البشرية»، التي يراها البعض فكرة مخلصة، تتصور عدواً خرافيّاً، أكبر من إمكانات «الدولة»، وتحمي بأجسادها ما تراه قيّماً في «الوطن» الذي يمر بمحنة.
الجسد واهن، والشعب قرر الدفاع عنه نتيجة شعور بالخطر وبأن «الدولة وحدها «فشلت في مواجهة الوحش الخرافي». الدروع البشرية انتهت بتراجيديا في العراق، لكنها في مصر تثير شجوناً كثيرة، وتفتح ملفات وسجالات تحتيه: لماذا يحمي المسلم المسيحي، في وقت يتعلم فيه المسلم في المسجد والمدرسة والشارع وقناته الفضائية أنه كافر، وأنه مشروع مقاتل ضد الإسلام؟ «إنه دفاع عن الكفر»، هذا يقال سراً في بيانات ومواقع إلكترونيه، لا تتورع عن كشف المكنون الى النهاية: «إنهم يستحقون الموت إذا أردنا الإخلاص للدين الذي تربّينا عليه».
آخرون أكثر رقّة وأقل راديكالية يرون أن المسيحيين في مصر «ضيوف، يستحقون الرعاية، لكن بدون تجاوز حدود الضيافة، ومع تمنيات أن ينضمّ الفاضل منهم الى معسكر الإسلام».
«لكنكم أنتم الضيوف»، ردّ المسيحيون ذات مرة وأخرجوا ما يقال سراً الى العلن، وقاله الأنبا بيشوي: «الأقباط هم مصر والمسلمون ضيوف».
صراع على «الأصل» و«الضيافة»، في بلد قاد التنوير والنهضة الفكرية، وألهم المحيط بنموذج «انقلاب الضباط الصغار».
لكن النهضة الداخليّة لم تكتمل، فالمجتمعون لسماع خطب الزعيم كانوا سيعودون الى البيت، ويتركون «المجال العام» في يد السلطة تلعب فيه ألعابها. ألعاب وصلت الآن الى مرحلة خطرة أفرغت الجسم من جهاز مناعته، ولم يبق إلا رغبة في التحول الى دروع بشرية. مشاريع ضحايا يشارك فيها المخلصون من المسلمين جيرانهم في محنة الإرهاب.
لم يعد بعد كل هذه السنوات مساحة أو اختيار للشخص إلا أن يكون مقاتلاً أو مجاهداً في سبيل دينه أو مذهبه أو كنيسته. يتعلم الطفل في أول سنوات المدرسة أن «الضالين» هم المسيحيون. وبعد قليل يتعلم كيف يطارد الضال ويقوّمه قبل أن يقرر قتله. هذا هو قوام التربية النموذجية في المدارس، الحكومية منها والخاصة، التي تحرص على إظهار دينها في إعلاناتها التجارية، بما يحمل ذلك من وعد بتجهيز الطفل لمعركته مع النفس أولاً، ثم مع العالم لتكوين نواة أمة طاهرة نقية.
الأمة تجاهد نفسها، لا بمسلميها فقط، لكن المسيحي يتربى في العادة على الصبر، والتحمل، واللعنة السرية على وضعه في معصرة الاضطهاد. تربية تنتظر المنقذ، بعدما تحول المجال العام، و«الدولة» التي صادرته، الى أطلال. منقذ قادم من السماء أو من أرض افتراضية ليحقق نصرة الدين (الإسلام أو المسيحية) ويكافئ كل مقاتل ويوزع الغنائم.
وفي انتظار المنقذ، ماذا ستفعل الدروع البشرية؟