«أنا مسيحي»، اعتراف كان كفيلاً بإنقاذ صاحب السيارة الخضراء، الراقدة بجوار باب الكنيسة، وأشارت إليها بعض الروايات بأنها «مفخخة» ومكتوب عليها «البقية تأتي». الرجل من أتباع كنيسة القديسين، حيث قرر قضاء ليلة استقبال العام الجديد هناك مع عائلته. حصل الرجل على تمييز إيجابي من الشرطي المكلف بالحراسة، حيث وافق على ركن السيارة أمام الكنيسة على خلاف القواعد الأمنية وأوامر إدارته العليا.
اطمئنان؟ إهمال؟ فساد؟ ربما يكون الشرطي اطمأن إلى أن صاحب السيارة مسيحي، وقد يكون شعر بأن الأمر لا يعنيه، أو أن ما يعنيه هو «الإكرامية» التي سيمنحها له صاحب السيارة.
هكذا تعاملت الدولة ممثّلة في رمزها «الصغير» مع الخطر المحدق بالكنائس ورعيّتها في مصر. أما الرموز الأكبر فقد أهملت تهديدات واضحة، ويقال إنها حدّدت «كنيسة القديسين».
عنصرية أم نتيجة طبيعية لترهّل جهاز الأمن المستهلك تماماً في ضبط الأمن السياسي على مقاس نظام سياسي عاش طويلاً؟ هناك عنصرية محسوسة في جهاز الشرطة. يحكي مسيحي أمام كاميرات صحافية عن تغيّر في أسلوب المعاملة بعد اكتشاف الهوية الدينية في رخص السيارات أو المشاكل العادية، ويحكي آخرون عن تضرّر ضباط وعساكر من اضطرارهم إلى حراسة الكنائس بعد مذبحة نجع حمادي العام الماضي، وتقزّز ملحوظ لدى عناصر مسلمة في هذه الحراسة من الطعام المطبوخ في بيوت مسيحية. هذه حساسيات ألغت تقريباً التفكير في تفاصيل حادث التفجير ليلة رأس السنة، وفتحت ملفات مسكوت عنها، وعرّت جروحاً قديمة، وأخرجت إلى السطح قروحاً بشعة، لم تعد الكريمات الملطّفة قادرة على إخفائها.
والأقباط كانوا خائفين، وهم الآن غاضبون. خرجوا إلى الشارع يحملون صلباناً خشبية كبيرة، احتلوا كورنيش النيل أمام منشآت حيوية. لم توقفهم جحافل الأمن المركزي. كسروا حاجز العزلة، وتمرّدوا على وضع «المسيحي المسالم»، ليعلنوا بعنف: «عايزين حقوقنا».
خلال قداس جنائزي لتوديع الضحايا، أوقف الأقباط الأنبا يؤانس (نائب البابا وأحد المرشحين لخلافته) عندما قال في كلمته: «نشكر الرئيس مبارك». صوت الاحتجاج بدأ خفيفاً وتحول إلى هتاف «لا…لا...لا». وعندما أراد إعادة الشكر تكرّر الرفض على نحو أعنف، وتبعه هتاف المطالبة بالحقوق.
الشعور العام لدى المسيحيين يسير إلى مازوشية تتلبّس أصل المعتقد الديني. الجمهور الغاضب من الدولة صفّق عندما قال الأنبا باخيميوس، في كلمة العزاء، «بقدر ما نتألم فإننا نتعزى بأننا كسبنا شهداء جدداً للكنيسة». وأمر البطريرك بدفن الضحايا في مقبرة جماعية لتبقى رمزاً على عصر الشهداء الجدد. هذه الشحنة الدينية تقود غضب الأقباط، لكن إلى أين؟ وإلى أي مطالب؟ المطالب القريبة الآن: بعض الحقوق في حرية بناء دور العبادة، وتبريد النار بإقالة المسؤولين عن فجوة الأمن ليلة الانفجار.
الدولة هنا في عزّ لحظات ضعفها، ليس لديها ما تقدمه، بعدما أدت سياساتها إلى تضييق البلد على الجميع، والفرص سُرقت إلى حدّ أصبح توزيعها على الهوية الدينية أو العائلية.
صحيح أن الأقباط وصلوا إلى مناصب (وزير مال ومحافظ..) لكن، عادة، يُختارون بمنطق التمثيل النسبي. وهذه أعراف وضعتها الدولة منذ عبد الناصر. لكنها، الآن، تحتاج إلى تأمل، وإعادة نظر. فالدولة أيام عبد الناصر كانت تريد «توحيد» نموذج المجتمع. تريد أن تقود أمة عربية واحدة، وتعطي انطباعاً بخصوصية مصرية. وكان لا بد أن يكون للإسلام موقع. ولهذا رأت اتجاهات بين الأقباط أن ثورة تموز 1952 أنهت «العهد الذهبي»، حين كان الوجود السياسي للأقباط يعتمد على العلاقة بين رئيس الجمهورية والبابا الموجود على رأس الكرازة المرقسية. العلاقة بين الرئيس والبابا هي ترمومتر وضع الأقباط في دولة لا تعتمد على الحق العام، لكن على المنح والرضى السامي والحصص غير المعلنة.
لا تعترف الدولة بأن الأقباط يعاملون كأقلية. كرامتها لا تجعلها ترى أن قنبلة رأس السنة ليست الأولى، وأن الاحتفال أصبح مرتبطاً لدى المسيحيين بالخوف من رائحة الموت التي لم تعد معطّرات الجو قادرة على أن تخفيها.
بناء الدولة مرتبك بين حداثة لم يبق منها إلا قشور، وطبيعة متسلّطة، انتقائية موروثة من دول قامت على العائلات والقوميات والتجمعات المغلقة، من العثمانيين إلى المماليك. لم تدفع دولة ما بعد الضباط الأحرار إلى منطق الحداثة. والعلاقة بين البابا كيرلس السادس وعبد الناصر كانت لإخفاء شعور الأقباط بالاضطهاد، من دون أن تلغيه.
نموذج عبد الناصر أعطى انطباعاً بالعلمانية، وفي الوقت نفسه لعب بالدين، وخصوصاً في لحظات الهزيمة، ليستمد بركة من السماء. لم يكن واضحاً وقتها هل السماء مسلمة أم مسيحية، بل إنه استخدم ظهور العذراء لمصلحة دعم السماء له بعد الهزيمة في حزيران ١٩٦٧.
مع السادات وصل الاحتقان إلى مداه. استقالت الدولة من وظيفتها الاجتماعية. وتصاعدت لعبة استغلال الدين. كان السادات يعيد الدولة إلى الوراء ليكون «رب العائلة» و«الرئيس المؤمن». وفي الوقت نفسه يربط مصر بعجلة الإمبراطورية الأميركية، ويحوّل الاقتصاد إلى ملعب للغرائز المتوحشة في تكوين ثروات غير شرعية. في هذا الإطار، أراد حماية نفسه، فأضاف إلى الدستور مادة تقول إن «الشريعة الإسلامية هي مصدر السلطات»، أي إن مصر التي كانت مشروع دولة حديثة لا سيادة فيها لدين أو طائفة أو عائلة، تحولت إلى دولة «إسلامية»، بل «سنّية»، تقبل الطوائف والأديان الأخرى باعتبارهم «أقلية» بالتعبير السياسي.
كان هذا ضوءاً أخضر للعبة التمييز الكبيرة. أصبحت النشاطات الاجتماعية تقام في الكنائس والمساجد بدلاً من المدرسة أو النادي، وغاب الوجه المدني بالتدريج لمصلحة التطرّف لا التديّن.
الدولة الآن في وضع حرج، بعدما ظهر شبح مواجهات طائفية أكبر من الانفجارات القليلة. إنها لحظة لم تمرّ بها مصر منذ سنوات طويلة. لحظة يصبح فيها الجرح أكبر من التوازنات السياسية والأمنية.