تتوالى المفارقات في شأن السيادة المصرية بسرعة. فبينما تؤكد القاهرة ــ الرسمية بإصرار «سعوديّة» جزيرتي تيران وصنافير، سارعت إلى نفي المطالبة السودانية بمنطقتي حلايب وشلاتين، اللتين بدا أن التعامل معهما سياسياً وشعبياً لم يكن جدياً كما حدث في قضية الجزيرتين. وفيما يظهر البرلمان المصري ثقته بسلامة الموقف في هذا الشأن، تثور مخاوف من تأثير الحديث السوداني على مفاوضات سدّ النهضة، لكن مصادر في وزارة الخارجية استبعدت ذلك.
وسبق للدولة المصرية أن أكدت، في أكثر من مناسبة، أنه لا مجال للتفاوض حول وضع المدينتين الجنوبيتين، إلى حدّ مُنع فيه الرئيس السوداني، عمر البشير، من تلقّي أسئلة الصحافيين خلال الزيارة الأخيرة، تجنّباً لإثارة الأزمة التي تُجدد بين حين وآخر، خاصة مع قرب الانتخابات السودانية التي يتفهمها دائماً الساسة المصريون باعتبارها محاولة لكسب المزيد من التأييد الداخلي والرد على المعارضة.
كذلك لم تغب السخرية في الدوائر الاجتماعية والحزبية بشأن طلب السودان الذي تنازل رئيسه عن نصف البلاد لإقامة دولة أخرى (جنوب السودان)، مقابل المطالبة بمدينتين صغيرتين «لم يدخلهما من قبل». حتى إن أعضاءً في البرلمان من «ائتلاف دعم مصر» قالوا لـ«الأخبار» إنهم لن يثيروا القضية في البرلمان عبر طلبات إحاطة أو بيانات للحكومة، وذلك بسبب تأكدهم من «صحة الموقف المصري» وكي لا يشغلوا الرأي العام. لكنّ نواباً آخرين قالوا في تصريحات إن «تصرف السودان انتهازي ومحاولة لاستغلال الأوضاع الداخلية في مصر لتحقيق مصالح خاصة».
الأمر الوحيد الذي يخيف هؤلاء النواب هو تأثير ذلك في موقف الخرطوم من مفاوضات سد النهضة، لأن السودان الدولة الوحيدة التي تساند مصر في اعتراضاتها على السد وتلعب دور الوسيط أحياناً بين القاهرة وأديس أبابا، فضلاً عن اختيارها كمكان لانعقاد اللجان الفنية التي تشهد تعنّتاً من الطرفين.
يقول النائب عن حلايب وشلاتين، ممدوح عمارة، لـ«الأخبار»، إن المطالبة السودانية «غير مقبولة، لأن المدينتين مصريتين حتى النخاع ولا يمكن قبول الحديث عن مفاوضات حولهما، وهما تضمان مصريين وليس سودانيين»، لافتاً إلى أن «الدولة بدأت التحرك والاهتمام بتنفيذ مطالب أهل المدينتين باعتبارهما من المناطق الحدودية المهمشة التي نصّ الدستور على الاهتمام بها وتنميتها». وذكر عمارة أن «تصريحات الخارجية المصرية (البيان الرسمي) كافية للرد حتى لا يأخذ الموضوع مساراً مختلفاً في ظل علاقات بين دولتين شقيقتين... والأهالي في حلايب وشلاتين لا يهتمون بهذه التصريحات التي اعتادوا سماعها بين حين وآخر».
وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية قد سارع إلى القول إن «حلايب وشلاتين أراض مصرية وتخضع للسيادة المصرية، وليس لدى مصر تعليق إضافي على بيان الخارجية السودانية».
في المقابل، يؤكد مصدر في وزارة الخارجية أن هذه القضية لن تؤثر في مفاوضات «سد النهضة»، مستدلاً بصدور بيان عن الخارجية السودانية قبل ساعات من سفر وزير الري المصري محمد عبد العاطي إلى الخرطوم، في أول لقاء بعد توليه منصبه، مع نظيره السوداني، وذلك للتوصل إلى رؤية مشتركة حول مفاوضات «النهضة». كذلك صدرت تعليمات من جهات سيادية لوسائل الإعلام بتجنّب السجال وتصعيد الموقف، خاصة مع تأكيدات من الخارجية للسفير السوداني لدى القاهرة بأن يكون ظهوره الإعلامي محسوباً وملتزماً الأعراف والتقاليد الدبلوماسية، وهو ما التزمته غالبية وسائل الإعلام كما بدا أمس.
تاريخياً، تثير الخرطوم مسألة حلايب وشلاتين في مراحل عدة، لكن بعد «ثورة 25 يناير 2011» عزّز الجيش المصري وجوده في المنطقة، وبدأت الدولة تنمية المنطقة (راجع العدد ٢٨٤٥ في ٢٣ آذار) عبر مشروعات بدأ العمل فيها فعلياً، كبناء مدارس وتوفير خدمات لأهلها. كذلك فإنه للمرة الأولى خُصّص مقعد لأهالي الدائرة في مجلس النواب.
ويرى المصدر في الخارجية أن بيان الخارجية السودانية جاء تحت ضغوط شعبية في الخرطوم تطالب بالتفاوض على المدينتين باعتبارهما سودانيتين، مثلما حدث بين مصر والسعودية على جزيرتي تيران وصنافير، وهو ما تبعه تصعيد إعلامي مقصود من بعض الإعلاميين في البلدين. ولفت إلى أن الرد المصري جاء واضحاً ومقتضباً لـ«يؤكد السيادة المصرية على المدينتين بشكل كامل، حتى لو لجأت الخرطوم إلى التحكيم الدولي».
لكن المفارقة أن الدولة تريد ترسيخ اقتناع متزامن لدى المواطنين بأن تيران وصنافير سعوديتان بعد عشرات السنوات من الحديث عن «الحق المصري» فيهما، وهي مفارقة قد يبني عليها معارضو اتفاقية ترسيم الحدود المصرية ــ السعودية. وتضيف مصادر أنه في الحالة السعودية ــ المصرية يستحيل التفاوض أو اللجوء إلى التحكيم الدولي، «على الأقل الآن»، ليس «بسبب نمو حركة التبادل الاقتصادي بشكل كبير ولكن لاعتبارات خاصة بالمصالح والاتصالات بين كبار قيادات البلدين».