دمشق - لم يمر عيد الميلاد واستعدادات رأس السنة على المسيحيين السوريين كأي عام مضى؛ فالدم هذه المرّة قد بلغ الرُكب داخل البلاد، ما أرخى بظلاله على أي احتفال ديني أو رسمي أو وطني. واقتصر العيد على الصلوات والدعاء لطفل المغارة، بأن يُعيد السلام والمحبة إلى بلد افتقدهما، وإلى شعب لم يفارقه العنف المتصاعد منذ سنتين.
اختلف الوضع هذا العام عن العام السابق. لم يأبه كثير من السوريين بما يجري من اقتتال في مناطق متعددة من البلاد، كانت نجمتها مدينة حمص، خلال العام الماضي، لكن اليوم، ما عاد يمكن استثناء مكان في سوريا من التفجيرات والاشتباكات والقصف. لذلك، خفّ وهج أضواء الميلاد، وساد الحداد في كل بيت سوري.
«عيدية» الثورة لمسيحيي سوريا هذا العام جاءت عبر موقع «يوتيوب»، حيث ظهر أبو الفداء، زعيم لواء «الأنصار» التابع للجيش الحُر، مهدِّداً باقتحام بلدتي محردة والسقيلبية المسيحيتين شمال غرب مدينة حماه بهدف طرد عناصر الجيش السوري الموجودين فيهما. أبو الفداء الواقف بين ستّة من مسلّحيه يعصبون رؤوسهم بعصابات سوداء كُتب عليها «لا إله إلا الله» ويحملون رشاشاتهم، وجّه إنذاره إلى سكان البلدتين المذكورتين بأن «بواسل» الجيش الحر جاهزون للتوجه واقتحام «أوكار» الجيش السوري و«شبيحته». وما يشي بالأسوأ أن كلام أبي الفداء ترافق مع هجمات عديدة يشنّها مقاتلو المعارضة المسلحة منذ أسبوع على حواجز الجيش السوري في ريف حماه، كان أبرزها ضرب محطة محردة الحرارية ومحاولة اقتحام بلدة السقيلبية. اعتداءات تأتي رغم كل تنديدات منظمة التعاون الإسلامي التي استنكرت تهديد مواطنين سوريين مسيحيين، باعتبار هذا التهديد بالاعتداء «أمراً مخالفاً لتعاليم الإسلام السمحة التي تدعو إلى التسامح والإخاء ونبذ العنف».
وفي الوقت الذي تعيش فيه محردة أصعب حالات الخطف والتهديد، لا تغيب القرى المسيحية في ريف اللاذقية عن الأذهان بعدما هجرها سكانها، ولعلّ أبرزها قرية كنسبّا في منطقة الحفة، التي خرجت عن سيطرة الدولة، وجرى تدمير مؤسسات الحكومة والوقف المسيحي فيها. وأمام هذه الأوضاع يرى المطران لوقا الخوري، النائب البطريركي العام للروم الأرثوذكس في سوريا، أن جميع الأعياد حزينة لا أعياد المسيحيين فقط، إذ تعوّد السوريون الاحتفال بأعيادهم الإسلامية والمسيحية معاً. ولم يخفِ المطران الخوري موقفه الدائم بالحديث عن صلوات يتلوها المسيحيون من أجل «الجيش السوري الذي يناضل في سبيل تحرير الأرض من المسلحين». ويقول في حديث لـ«الأخبار» إنّ مكتب التنمية والمساعدات في البطريركية يتابع نشاطه في إرسال المعونات إلى جميع النازحين في كل مكان من سوريا، ولا يفرّق بين مسيحي ومسلم. ولا يعير الخوري اهتماماً لتهديد القرى المسيحية، إذ يجد أن المسيحيين مثل سائر السوريين يتعرضون لتهديدات إرهابية لم يعد يعيرها السوريون اهتماماً، بل يحاولون معاً تحمل كل المصاعب التي تتعرض لها بلادهم. كلام المطران يقابله كلام بوغوص، شاب أرمني يتقدّم إلى سفارة أرمينيا للمرة الأولى، بطلب هجرة بعد سنوات من الاستقرار على هذه الأرض. يقول الشاب: «لم أفكّر يوماً في هجرة ثانية بعد هجرة أجدادي الأولى إلى هذا البلد إبان المجازر التركية ضد الأرمن. إلا أني اليوم أجد نفسي وجميع السوريين أمام مجازر جديدة وهي تأتي علينا الواحد بعد الآخر تدريجياً». الشاب، غير المؤيد للنظام، يشرح خشيته من سقوط النظام ووقوع الحكم بأيدي إسلاميين ديكتاتوريين جُدد أُسوةً بما جرى في بلاد عربية أُخرى. «مشهدٌ يعزّ عليّ أن أجد بلدي سوريا يقع فيه»، يقول بوغوص. وعلى الطريق في باب توما والقشلة، تنتصب أشجار الميلاد، وقد زيّنتها صور الشهداء مع الأجراس والكُرات الملونة، إلا أنّ ازدحام منطقة القصاع خفيف والوجوه حزينة. التردّي الاقتصادي يؤدي دوراً واضحاً في خلوّ السوق من زواره، فيما يقف أصحاب المحالّ خارجها، يتأملون المارّة بخيبة. لا شيء في هذا العيد يشبه السنوات الماضية.
أصحاب المكاتب العقارية يقومون بعملهم «على أكمل وجه»؛ فإيجارات البيوت في القصاع تصل حتى 60 ألف ليرة سورية شهرياً، ومعظم أصحابها يريدون الدفع مسبقاً عن عدّة أشهر، بما أنّ السفر بات في أعلى سلم الأولويات. من لديه ابن في الخارج يذهب لزيارته، وقد يعود إن تحسنت الأوضاع. إنما فكرة العودة في الأذهان ليست قريبة أبداً. هذا ما يؤكّده فادي، الشاب الثلاثيني المسافر إلى بيروت، ومنها إلى أي بلد بعيد عن الموت اليومي. أما جورج، الطالب الجامعي الساكن في جرمانا، فيوضح أنّ المسيحيين باقون على هذه الأرض طالما هم سكانها الأوائل. ويتابع شرح موقفه، الذي عبّر عنه كلّياً بطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي، في رسالته الرعائية قبل عيد الميلاد منذ أيام.
من جهة ثانية، يحاول طوني، أحد سكان حي القصور، المشاركة في الأعمال التطوعية والإغاثية للنازحين من المناطق المنكوبة. يقول بعتب: «ألا يجد الصحافيون من يتحدثون معه من المسيحيين إلا شبيحتهم؟». طوني المعارض، يرى أن الكثير من المسيحيين لا يخشون شركاءهم في الوطن، بل يتطلعون معاً إلى الخلاص من النظام الديكتاتوري وبناء سوريا الدولة المدنية التعددية التي يستحقها السوريون. ينظر إليه زميله خالد «الشبيح»، كما يحلو له ولطوني نعته، ويقول: «بعد كل ما جرى ويجري في البلاد، لن يكون لكم إلا أن تكونوا ذميين في الدولة المدنية التي تحلمون بها، فتدفعون لها الجزية. ويمكنك أن تسأل جبهة النصرة والعم أبو الفداء الحموي». عبارات خالد ليست غريبة ولا مستنكرة، بل هي ما يواجه به كل مسيحي معارض في سوريا اليوم. وغالباً لا ردود إلا الابتسامة الساخرة. فيما يتسلّح السوريون بابتسامات مكابرة كثيرة لاستقبال عام 2013 آملين دماً أقل.




المسيحيون والثورة

في وقت كان يعبّر فيه عدد من المواطنين السوريين المسيحيين عن عدم استعدادهم لدخول لعبة الحرب الأهلية، كانت الأصوات تصدح في أوائل المظاهرات: «العلوية عالتابوت، المسيحية ع بيروت». وكان لهذا الشعار ما له من إثارة هواجسهم الدفينة، هم الذين عاشوا كأقلية دينية طوال عقود، رغم عراقة وجودهم على هذه الأرض. ورغم كل المحاولات اللاحقة لاستيعاب الخوف المسيحي من المد الإسلامي في التظاهرات، وضمن تيارات المعارضة الخارجية، لم يتجاوب مسيحيو سوريا مع نداءات الثورة، متحملين تبعات ذلك من اتهامات بالجُبن والطائفية والتشبيح. وما بين المعارض العتيق ميشيل كيلو، الذي لم يمثّل قبل الثورة دور المعارض المسيحي الذي تبوّأه أخيراً في معرض ردّه على مواقف البطريرك بشارة الراعي السياسية، وبين جورج صبرا، رئيس المجلس الوطني السوري المعارض في الخارج، وتماشي المجلس مع إرادة التيارات الإسلامية المسيطرة عليه، ظهر أفراد مسيحيون جاهروا بنشاطهم ضدّ النظام، ورفضوا موقف بطريركياتهم وكنائسهم، وانطلقوا إلى الميدان مقدمين كل ما باستطاعتهم تقديمه من أجل الثورة، التي اعتقدوا فيها خلاص بلادهم، رافضين التسليم بأسلمة الثورة وديكتاتوريتها. لم يكن آخر هؤلاء المخرج باسل شحادة، الذي قُتل في حمص أثناء محاولته توثيق أحداثها منذ أشهر، حيث لا يزال عدد من الشباب المسيحي ينتظر ويعاند في سبيل مدنية الثورة وبناء الدولة.