صنعاء - قبل عشرة أعوام من الآن، خرج مئات الآلاف من اليمنيين في مشهد جنائزي نادر وعفوي لم تشهده اليمن والبلدان العربية لوقت طويل من الزمن، مشيعين جثمان الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني، جار الله عمر، الذي اغتيل في الثامن والعشرين من كانون الثاني ٢٠٠٢ على يد أحد المسلحين خلال مشاركته في المؤتمر الثالث لحزب التجمع اليمني للاصلاح. يومها بدا أن أمراً آخر دُفن مع جار الله عمر هو ملف جريمة اغتياله، التي توجه أصابع الاتهام الشعبية فيها إلى الرئيس السابق علي عبد الله صالح وحلفائه في حرب 1994 من آل الأحمر.
وفيما تبدو مسألة نبش جريمة اغتياله اليوم عصية ومستبعدة في ظل وقوع اليمن تحت حكم المبادرة الخليجية، وما قدمته من حصانة لرؤوس النظام واتباعه، وما تشترطه من قانون عدالة يدعو إلى التصالح والتسامح لا للمحاسبة، فإن هناك ما لم يدفن في قبر جار الله عمر. إنه جار الله عمر نفسه، هتافه وحلمه الكبير بدولة تشبه «اليمن بتنوعه وعظمته ووحدته وتعدد تياراته الفكرية والسياسية».
فعندما اتكأ عمر بسنينه الستين على منصة الخطابة في الحفل الافتتاحي للمؤتمر لالقاء كلمته كان يريد التأكيد على حلمه قبل أن تعلن رصاصتان صوّبهما قاتل تكفيري إلى صدره مباشرة خبر اغتياله الحزين على المنصة، التي بدت مثل مقصلة بفكين لطخت الدماء أسنانها، بينما ظهر المؤتمرون كجمهور من عامة الناس الجوعى يشهدون تنفيذ قرار الملك في ساحة مدينة من مدن أوروبا القرون الوسطى.
في الخطاب، الذي لم يتجاوز ثلاث صفحات، ولم يُكتب لعمر انهاؤه، ذكر كلمة الديموقراطية 15 مرة. بالنسبة إلى رجل ستيني معجون بالاشتراكية المتهمة بقمع الحريات السياسية والمدنية، بدت كلماته عن الديموقراطية مثل ثورة أو صيحة شقت ليل البلد الدامس صبيحة ذلك اليوم، لكنها في الحقيقة تبدو أكثر تعبيراً عن شغفه وهو شاب يهتف في قلب التظاهرات الطلابية التي اندلعت في صنعاء قبل ثورة أيلول/سبتمبر 1962.
الشاب الهتّاف سرعان ما كبر في العمر وأصبح قائداً سياسياً وطنياً يعتلي المناصب والرتب ويحصد الانجازات المهمة، لكن هتافه ظل يافعاً في داخله حتى هوى مضرجاً بدمائه على منصة قاعة تعج بجماهير سبق أن خبرت جرأة طروحات عمر في اللحظات المفصلية في تاريخ اليمن.
فعقب أحداث كانون الثاني 1986 بين أعضاء المكتب السياسي للحزب الاشتراكي في عدن وما رافقها من اقتتال، وقف جار الله عمر في عدن ونادى بالتعددية الحزبية والسياسية في ظل نظام حكم الحزب الواحد. نداء كهذا في ظل تلك الظروف غير الموضوعية لا يمكن تفسيره سوى بأنه كان هتافاً. إنه هتاف الطالب جار الله عمر، الذي لم يترك لحظة المنتصرين الجدد بحكم الحزب الواحد تزهو كثيراً، فارتفع صوته بقوة وبكل صدق من أجل التعددية الحزبية والسياسية. وبعد 16 عاماً من دعوته تلك، قال جار الله عمر، في آخر خطاب له، «أحلم بمجلس نواب يشبه اليمن بتنوعه وعظمته ووحدته وتعدد تياراته الفكرية والسياسية».
فالديموقراطية عند جار الله هي بفهم بسيط تعني «تقوية المعارضة»، هذا ما تختصره فكرة اللقاء المشترك التي تفتقت في رأسه وعمل على تحقيقها بعد حرب صيف 1994، وقبل انتخابات 1997، عندما تأسس «مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة»، الذي ضم أحزاب المعارضة اليمنية من الاشتراكيين والناصريين والبعثيين واتباع المذهب الزيدي في تكتل تكتيكي لخوض الانتخابات قبل أن يتغير اسمه إلى اللقاء المشترك. ولأن المعارضة هي جوهر الديموقراطية عند جار الله عمر، دعا إلى حمايتها داخل الأحزاب بدايةً، نظراً إلى أن تأصيلها سيؤدي إلى تقوية المعارضة في الحياة السياسية عامة.
لكن مشروع عمر بالصيغة التي كان يسعى إليها لم يكتب له النجاح. فاللقاء المشترك اليوم شريك في السلطة بنسبة 50 في المئة من حكومة الوفاق الوطني للفترة الانتقالية أو حكومة الـ«فيفتي فيفتي»، كما يحب الشباب تسميتها. وعملياً لم يعد اللقاء المشترك تكتلاً معارضاً، ليس لأنه شريك في السلطة، بل لأنه نقل المعارضة من الشارع إلى السلطة، ولأنه جعل الساحة الوطنية السياسية خالية من المعارضة. وظرف كهذا يستوجب هتافاً شاباً مثل الهتاف الشاب الذي ظل جار الله عمر يحمله داخله ويردده منذ تظاهرات 1962. وهو يكاد يكون نفس الهتاف الشاب الذي يسمع في تظاهرات ومسيرات طلابية وشعبية كحملة «أنا نازل» و«مسيرة الحياة 2».