حلب - على طول الحدود السورية مع تركيا، الممتدة نحو 800 كيلومتر، تتوزّع أطياف من الشعب السوري المتنوع القومية والإثنية. فإلى جانب العرب، القومية الكبرى، يوجد أكراد وأرمن وأشوريون وتركمان، وكلدان وشراكسة. وطوال السنوات الماضية، لم تثر هذه القوميات، باستثناء الأكراد، مطالب خاصة، ويبدو أنها مقتنعة بالصيغ السياسية التي تضمن لها حقوق مواطنة كاملة.
ولعلّ حال الحمّال الحلبي، الذي كان يعمل في كاراج حلب قبل نحو عشرين عاماً، خير دليل على حال الانصهار بين القوميات في المنطقة، إذ كان الرجل يتقن سبع لغات هي العربية والكردية والتركية والفارسية والأرمنية والعبرية والسريانية. الأمر الذي يعكس بنية المدينة التجارية التي يؤمها ويختلط فيها ذوو أصول عرقية مختلفة.
الشريط الحدودي لمحافظة حلب، الذي يفصل بين تركيا وسوريا، هو أنموذج للتنوع وأشبه برقعة شطرنج، إذ يحتوي مناطق مختلفة يغلب على بعضها مواطنون من خلفية كردية، ثم آخرون من أصل تركماني تسعى الحكومة التركيّة لدغدغة مشاعرهم القومية، وكذلك العرب وهم غالبية السكان، دون نسيان الإثنيات الشركسية وعشائر النور والقرباط.
ويتركز الأكراد، الذين ينفردون عن باقي الإثنيات في وجود تأطير سياسي لهم، في منطقة عفرين بالدرجة الأولى وفي منطقة عين العرب، وكلتاهما على الحدود مع تركيا، إضافة إلى بعض أحياء مدينة حلب. ويلحظ وجود واضح للتركمان في جرابلس والراعي وبعض قرى منطقة الباب وأعزاز، وهي مناطق هجرها الأرمن خلال العقود الماضية باتجاه مدينة حلب والمهجر، حتى كادت تخلو إلا من بضع عائلات أجبرتها الأزمة الحاليّة على الهجرة.
أرمن
يرى سركيس قصارجيان، وهو صحافي من أصل أرمني، أن الأرمن في سوريا «موجودون قبل الإبادة الجماعية عام 1915 بكثير، ومعظم الأرمن الناجين من الإبادة الوافدين إلى الأراضي السورية هم سوريون في الأصل لأنهم وفدوا من مدن كلس، عنتاب، مرعش، الرها، مرسين، ماردين، أضنة وغيرها، وهي أراض سورية وقعت ضمن الحدود السياسية التركية المحدثة أي أنهم سوريون من أصول أرمنية». ويوضح أن «السوريين من أصل أرمني لا يمكن اعتبارهم كتلة متجانسة في موقفها من الأزمة، في حلب هم مؤيدون كغالبية سكان المدينة، في حين أنهم في دير الزور تأثروا بجو المدينة المعارض، ولكنهم جميعاً يدعون للحوار والإصلاح ويرفضون العنف والتحريض الديني، وهو ما لم يجنبهم الاستهداف من قبل قوى تكفيرية».
ويرى قصارجيان أنه لا وجود لأحزاب سياسية أرمنية ولكن «موقف الكنيسة الأرثوذكسية الأرمنية، وهي الكنيسة الأكبر، الداعي للوحدة الوطنية ونبذ العنف وحل الأزمة بالحوار، هو رأي إرشادي غير ملزم، وغالبية الأرمن علمانيو التوجه ويتخذون قراراتهم بدون تبعية للكنيسة، فمنهم المؤيد ومنهم المعارض».
التركمان
في بداية الأزمة، وتحديداً في نيسان 2011، أعلنت الحكومة التركية لجوء 265 شخصاً بينهم أطفال ونساء من خربة الجوز الحدودية التابعة لمنطقة جسر الشغور. وقالت إن هؤلاء سوريون من أصل تركي يريدون أن يسقطوا النظام ويجب الإسراع بإقامة مخيمات في يلا داغي لإيوائهم، استعداداً لتطورات قد تحصل في سوريا.
ورغم انتشار رقعة الاحتجاج في ريف حال الشمالي والغربي، وتحوله إلى العمل المسلح منذ أيلول 2011، فإن الكثير من القرى والبلدات التي يقطنها تركمان بقيت بمنأى عن حركة الاحتجاج، رغم قوة العامل التركي في التحريض، والحديث عن إنشاء الاستخبارات التركية لمجموعات تقاتل باسم التركمان في محافظة اللاذقية.
ويقول أحد كبار شيوخ عشائر التركمان في حلب «إن رجب طيب أردوغان يلعب بالنار وينفذ مخططاً استعمارياً لتقسيم الشرق مرة أخرى، نحن في سوريا مواطنون نعتز بهويتنا وباندماجنا في المجتمع، نرفض أي حل يقوم على العنف وتحويل بلداننا إلى ساحات تآمر على شعوبنا».
ويضيف الشيخ، وهو قيادي سابق في أحد الأحزاب القومية العربية، أن محاولات حكومة أردوغان في حلب تبقى في إطار استخباري سري لكي لا تثير حفيظة الأكراد، في حين رعت الاستخبارات التركية في اللاذقية تشكيل جماعة مسلحة باسم «لواء التركمان» ويحمل هؤلاء العلم التركي، وهي الآن تطالب بحقوق قومية للتركمان السوريين وتحارب الأكراد في تركيا وسوريا وترفض أي حقوق قومية لهم». ويرى مصدر كردي أن أردوغان «لا يريد تحريك تركمان في حلب لكي لا يواجه الأكراد مباشرة، ويريد التلطي خلف السلفية الجهادية التي يدعمها بالتغطية النارية».
وحدات الحماية الكردية
انتشرت في عين العرب وعفرين وحدات الحماية الذاتية التي يهيمن عليها حزب الاتحاد الديموقراطي، وهو إحدى واجهات حزب العمال الكردستاني. ولا يختلف الأمر عليه في المحافظتين الحدوديتين مع تركيا، الرقة والحسكة، فالشريط الحدودي السوري التركي وبعمق 50 كيلومتراً جنوباً هو خليط من إثنيات قوميات شتى، فهنالك شيشان في رأس العين، وأكراد في المالكية والدرباسية، وعرب في تل أبيض ورأس العين، وأشوريين في تل تمر، وأكراد وعرب وأرمن وسريان وماردلية في القامشلي.
استيلاء الوحدات الكردية على المقار الحكومية وإنزال العلم السوري ورفع رايات حزبية وقومية في بعض المناطق الحدودية في الحسكة في أقصى شمال شرق سورية أثار رفض وقلق باقي المواطنين، ومنهم مؤيدون لمسلحي «الجيش الحر»، الذين شاركوا قوى «المجلس الوطني الكردي» التظاهرات الداعية لإسقاط النظام رغم انخفاض نسبة مشاركتهم جداً قياساً بالأكراد.
ويعتبر مصدر في وحدات الحماية أنها تقوم بمسؤولية حماية الشعب كله في «غرب كردستان» في مواجهة المتطرفين المدعومين من تركيا. واشتبكت معهم في رأس العين في معارك عنيفة سقط فيها عشرات القتلى من الطرفين، قبل أن تتمكن من طردهم. لذلك يخشى مواطنون في الحسكة من اندفاع بعض أبناء العشائر العربية في المحافظة لإيواء مسلحي الميليشيات التكفيرية رداً على استيلاء وحدات الحماية الذاتية على مقار حكومية وأمنية، تحت شعور التهديد القومي الكردي.
عرب الغمر، اسم يطلق على سكان قرى وادي الفرات الذين غمرت مياه سد الفرات أراضيهم، وتم منحهم أراضي بديلة من أملاك الدولة على الشريط الحدودي في محافظة الحسكة، الأمر الذي كان يقابل باستياء كردي، بالأخص مع وجود عشرات آلاف المحرومين من الجنسية في إحصاء عام 1962.
وساهم في خفض الاحتقان الكردي في بداية الأزمة تجنيس الأكراد المجردين من الجنسية والذين كان يطلق عليهم اسم «أجانب الحسكة» ولم يتجاوز عددهم عتبة الثمانين ألفاً بعد انتهاء المهلة المحددة لتسوية وضعهم، ليشكل ذلك مستنداً لدى القوى القومية العربية لدحض وجود غالبية كردية في المحافظة.
ورغم أن القوى القومية الكردية تسعى في خطابها إلى تأكيد عدم سعيها للانفصال، إلا أن تجربة العراق تثير مخاوف متعاظمة في نفوس باقي المواطنين في تلك المناطق. القلق من مصير مشابه لما حل بمواطنين عراقيين عرب على تخوم حدود منطقة الحكم الذاتي شمال العراق حيث تم تهجير قسم منهم،و السيطرة بالقوة على مناطق إدارية من محافظات عراقية أخرى وضمها إلى إقليم كردستان العراق، جعل نسبة التأييد لنظام الرئيس بشار الأسد مرتفعة لدى المواطنين في المحافظة.
مقاربة ديموغرافية
يبلغ عدد سكان محافظة الحسكة نحو 1.7 مليون نسمة، تقول الأحزاب القومية الكردية أن الأكراد هم غالبية سكان المحافظة، فيما يذهب إحصاء غير رسمي قام به معارضون ينضوون تحت اسم التجمع الوطني للشباب العربي إلى أن نسبة الأكراد هي بحدود 30 % من سكان المحافظة، ويقطنون في نحو 492 قرية من أصل 1191 قرية في المحافظة. كما يقطنون في مدن مركز المحافظة والمناطق الخمسة بنسب متفاوتة وهي (المالكية، القامشلي، رأس العين، الحسكة، الشدادي). ودمج الإحصاء باقي الإثنيات مع العرب. ويقدر ناشطو التجمع نسبتهم بأقل من 5% من مجموع السكان. وتتميز المحافظة بأن حركة السكان فيها خلال ثلاثة أرباع القرن المنصرم لم تتوقف، فنسبة كبيرة منهم قدمت من تركيا والعراق، ولا سيما الأكراد والآشوريين، بعد فشل ثورتين محليتين فيهما في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، والماردلية وهم العرب القادمون من ماردين.
أما في محافظة الرقة، فالمنطقة الحدودية مع تركيا (تل أبيض) ونواحيها فيسكنها عرب هم امتداد للعرب في الرها وأورفا في تركيا، في حين شهدت مدينة الرقة هجرة كردية إليها من منطقة عين العرب القريبة. وتقدر نسبة الأكراد في المحافظة بنحو 10 % من السكان الذين يصلون إلى نحو 600 ألف.
أما محافظة إدلب، التي يبلغ عدد سكانها نحو 2 مليون نسمة، فهي تضم خمس قرى من أصول تركمانية في جسر الشغور بالقرب من حدود لواء إسكندرون. أما محافظة اللاذقية، التي يبلغ عدد سكانها نحو 1.2 مليون نسمة، يوجد نسبة ملحوظة من المواطنين من أصول تركمانية في عدة قرى أقصى شمال المحافظة القريبة من لواء إسكندرون وفي جبل التركمان ومرتفعات البايرو رأس البسيط. ويبدو أن انخراط معظمهم في مناهضة النظام ليس له جذر قومي حقيقي، ولا يختلف عن بقية السوريين إذ تتوزع الولاءات بين مؤيد ومعارض ومحايد.




اعتراض على الدستور الجديد

تنص المادة التاسعة في الدستور السوري الجديد على ما يلي «يكفل الدستور حماية التنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته وتعدد روافده، باعتباره تراثاً وطنياً يعزز الوحدة الوطنية في إطار وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية». المادة تعتبرها المصادر الحكومية موضوعة لطمأنة جميع القوميات والإثنيات إلى أن هوياتها الخاصة محفوظة، إلا انها لقيت رفضاً من الأحزاب الكردية، والمنظمة الآشورية، لأنها لا تتضمن اعترافاً صريحاً بهاتين القوميتين، في حين أن باقي القوميات والإثنيات لا مطالب قومية لها تتجاوز الحقوق الثقافية. وبينما ترى نخب كردية أن الاعتراف الدستوري بالقومية الكردية على «أرضها التاريخية» هو حق كقومية ثانية في البلاد، تذهب قوى حزبية كردية إلى تأكيد «الحق القومي» ولكن للقوميات غير الكردية التي تعيش في شمال سورية، الذي باتت تطلق عليه اسم «غرب كردستان».