دمشق | مرّت ذكرى سلخ اللواء عن سوريا باهتمام إعلام رسمي فاجأ السوريين للمرة الثانية منذ بداية الأحداث في البلاد، فيما الإعلام المناوئ للنظام التزم الصمت المطبق حيال التذكير بحق سوريا في هذا الإقليم. أما أهالي اللواء فيعيشون الأزمة السورية وهواجس دعم الحكومة التركية عسكرياً للحراك حالهم حال سوريي الداخل.
اتهامات عديدة طاولت النظام السوري في ما يخصّ قضية لواء اسكندرون، وحكايات لا تنتهي عن إبرام الرئيس بشار الأسد صفقة مع حكومة رجب طيب أردوغان تخلّى بموجبها عن أراضي اللواء مقابل زيادة حصة سوريا من نهر الفرات، بعدما أثاره استثناء صحيفة «تشرين» الحكومية للواء من خريطة الحدود السياسية الحالية عام 2004، ما أدّى إلى تصاعد وتيرة الاتهامات للنظام السوري ببيعه أراضي اللواء أسوة باتهامات طاولت الرئيس الراحل حافظ الأسد ببيعه هذا الإقليم المحتلّ سابقاً، بالإضافة إلى اتهامات تضمنت تخليه عن أراضي الجولان السوري.
يقع لواء اسكندرون شمال غرب سوريا. يطلّ على البحر المتوسط ممتداً على مساحة 4800 كلم مربع. يسكنه اليوم أكثر من مليون نسمة، لم تبلغ نسبة الأتراك بينهم أكثر من 20% قبل عام 1920. لتتغير ديمغرافيا المكان عبر استفتاء عام تمّ بموجبه اقتطاع الفرنسيين أراضي اللواء من الدولة السورية ومنحه للأتراك، ثمناً لدخول تركيا الحرب العالمية الثانية إلى جانب دول الحلفاء في 29/ 11/ 1939.
توقّفت الحملات الإعلامية الرسمية في سوريا عن المطالبة بلواء اسكندرون في عام 1998، بعدما وقعت أزمة سورية تركية كادت تفجّر صراعاً عسكرياً. وبحسب وسائل إعلامية مناوئة للنظام السوري، تمّ التوصل إلى تسوية سياسية في اتفاقية أضنة تخلت بموجبها سوريا عن دعمها لحزب العمال الكردستاني، بالإضافة إلى تخليها عن المطالبة بأراضي اللواء مع المحافظة على عدم الاعتراف بها أراضي تركية. ومنذ حكم حزب البعث عام 1963، أيّ قبل اتفاقية أضنة بعقود، وحتى اليوم لم تتقدّم سوريا برفع أيّ دعوى ضد تركيا أمام المحاكم والمحافل الدولية ليبتّ في قضية لواء اسكندرون، الأمر الذي اعتُبر إدانةً واضحة للنظام بتخليه عن الأرض السليبة.
بدورها، نفت الجهات الرسمية في سوريا تخلّي النظام عن اللواء، إنما أعلنت أنّ المصلحة السورية تقضي بتأجيل القضايا الخلافية والتطلع إلى التعاون الاقتصادي والسياسي مع تركيا، إبّان شهر العسل السوري التركي الذي أجهزت عليه الأحداث السورية الأخيرة، الأمر الذي أعاد قضية اللواء إلى الواجهة في الإعلام الرسمي بعد صمت طويل لم يتقبله كثير من السوريين.
ولا تختلف المعارضة السورية مع النظام في ما يخصّ قضية اللواء، إذ إنّ التنازل عن الحقوق الوطنية والسيادية، وتجاهل بعض القضايا على حساب الأُخرى، غلب على مواقف معارضي الرئيس بشار الأسد. فقد شاع عن المجلس الوطني السوري المعارض تعهّده للأتراك، في حال تسلمه الحكم، الالتزام الكامل والمطلق بكل مقررات اتفاقية أضنة وملاحِقِها السرية، وضمنها التنازل عن لواء اسكندرون. وللإخوان المسلمين، القوة الغالبة في المجلس الوطني، مواقفهم المتضامنة مع الدولة التركية، فتصريحات قياداتهم كانت واضحة لا لبس فيها منذ ما قبل الأزمة السورية على اعتبار أنّ أرض لواء اسكندرون ليست سورية وليست محتلّة، ما يولّد أسئلة تلاحق نظام «مابعد الأسد»، وشكوكاً حول ارتباطاته الأولى، ولا سيّما أنّ خرائط سوريا التي تستخدمها التنسيقيات جميعها خالية من الإقليم المحتل.
لسكان اللواء تحفظاتهم حول قضية إقليمهم، التي تعود إلى الواجهة بين الحين والآخر، حيث يعارض بعضهم سياسة الحكومة التركية الداعمة بالسلاح والكوادر البشرية لمسلحي المعارضة، فيما ينتاب بعضهم الآخر الحنين إلى عائلاتهم على أرض وطنهم الأم. أمرٌ يبرره مهراج أورال، أحد الشخصيات اللوائية المقاومة للاحتلال التركي والمؤيدة للنظام السوري، بالاضطهاد الذي نالته إحدى الطوائف على يد الأتراك. أورال يوضح أنّ الشعب السوري في لواء اسكندرون حافظ على لغته وتراثه وفنونه وتمسك بعاداته وتقاليده رغم التتريك، لافتاً إلى ذكرياته عن والده زكي القاسم الذي نشط مع وهيب الغانم وابراهيم فوزي في عصبة العمل القومي، التي قادت النضال ضد الأتراك في أراضي اللواء بزعامة زكي الأرسوزي. ويتابع أورال كلامه رافضاً اتهام أهالي اللواء بنسيان قضيتهم، فيقول: «نحنُ الجيل الثاني من أبناء اللواء ناضلنا مع الاشتراكية في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير لواء اسكندرون، التي نظمت تظاهرات تجاوز عدد المشاركين فيها عشرات الآلاف للمطالبة بهوية اللواء منذ عام 1977، وما زلنا نترجم ذلك في صحفنا وإذاعاتنا المحلية».
لا يقف أورال واللوائيون ضد الحكومة التركية الضالعة في كل أحداث سوريا، بدءاً من الدعم اللوجستي والمادي لمسلحي المعارضة، بل إنهم يقفون ضد الحكومة التركية في جميع الأحوال، ولا سيّما في ضوء الاضطهاد الذي يعاني منه سوريو اللواء الذين لا تعتبرهم الحكومة مواطنين من الدرجة الأولى على اعتبارات يشرحها شعارٌ يذكره أورال، إذ لطالما تردد في المدارس التركية، وهو «لا صديق للتركي إلا التركي». أما الإضرابات والتظاهرات فلم تتوقف يوماً في أنطاكية ضد الحكومة التركية المتهمة من قبل المتظاهرين بأنها شريك أساسي لإسرائيل.
ومن وجهة نظر أورال، فإن اليسار التركي توحّد من أجل أحداث سوريا، إنما موقف اللوائيين لا يتغيّر بتغيّر الحكم في سوريا. هم الذين لطالما حذّروا السلطة في سوريا من التقارب مع الأتراك، منذرين أن الاتفاقيات المشتركة ستنقلب يوماً على وطنهم الأم. أما اتفاقية أضنة، فيبررها أورال بناء على المرحلة الحساسة التي حصلت فيها، وهي نهاية الحرب الباردة، إذ كانت خطوة قامت بها سوريا نحو جارتها الشمالية تخفيفاً للضغط الذي كانت تعانيه، بينما لم تتوقف أبداً أكبر مجزرة ثقافية ضد هوية اللواء، الذي لن يكون يوماً إلا سورياً، بحسب أورال.
البعض صمت فترة طويلة عن الحق السوري في لواء اسكندرون على مبدأ سياسي رسّخه النظام خلال التقارب مع تركيا، وهو ترك القضايا العالقة بين البلدين «الشقيقين» ليحلّها الأبناء والأحفاد ضمن قائمة لا تنتهي من العقد والقضايا المتروكة، بينما يحافظ بعض السوريين على وجود اللواء ضمن خرائط بلادهم متمسكين بحقّ بلادهم باستعادة هذا الإقليم، غير معترفين بأيّ اتفاقيات سياسية أو شهور عسل على حساب الأراضي السليبة.