سيكون الاضراب العام الذي اقره الاتحاد العام التونسي للشغل احتجاجاً على «الديكتاتورية الناشئة»، على حد عبارة رئيس الحكومة حمادي الجبالي، والذي يتزامن مع زيارة وزيرة الخارجية الأميركية لتونس هيلاري كلينتون، ضربة موجعة لحركة النهضة الحاكمة، التي بدأت تصرف من رصيدها على المستوى الدولي منذ ما سمي «غزوة» السفارة الاميركية، ما يطرح أكثر من سؤال عن مدى جاهزية الحركة الإسلامية النهضة للحكم، وقدرتها على أن تكون بديلاً من أنظمة احزاب الاستقلال التي اهترأت ونخرها الفساد والمحسوبية. فإلى وقت قريب قبل ١٤ كانون الثاني ٢٠١١، كانت مجرد شبهة الانتماء إلى حركة «النهضة» مدعاة للمساءلة القضائية وربما السجن. إلا أن الثورة فتحت أبواب الحرية امام كل التيارات الاسلامية في تونس، وخصوصاً حركة «النهضة» التي قدم قياديوها وحتى قواعدها وعائلاتهم تضحيات جسيمة وقبعوا سنوات طويلة في السجون في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
إذاً، وصول الحركة الاسلامية الى الحكم لم يكن على بساط وردي، كانت وراءه سنوات من السجن والمنفى والمراقبة الادارية والمنع من العمل. وفي الحكومة الحالية نجد عدداً من الوزراء الذين قضوا اكثر من عشر سنوات في السجون، مثل رئيس الحكومة حمادي الجبالي الذي قضى نحو ١٧ عاماً بينها اكثر من عشر سنوات في سجن انفرادي، ووزير الداخلية علي العريض الذي يحمل في رصيده نحو ١٧ عاماً، وعبد اللطيف المكي وزير الصحة، وعبد الكريم الهاروني وزير النقل، إضافة إلى وزراء آخرين عاشوا سنوات طوالاً في المنافي.
هذه الضريبة التي دفعتها حركة النهضة، منذ أن كانت جماعة اسلامية في اواخر الستينيات ثم عندما تأسست كحركة باسم «الاتجاه الاسلامي» سنة ١٩٨١ وكحركة النهضة منذ ١٩٨٩، أهلتها للفوز بثقة التونسيين في اول انتخابات نزيهة وشفافة أنجزتها هيئة مستقلة شهدت بكفاءتها معظم دول العالم؛ إذ حصلت حركة النهضة على ٣٩ بالمئة من الأصوات، وهو ما اهلها لتشكيل الحكومة مع حليفيها «التكتل من اجل العمل والحريات» و«المؤتمر من اجل الجمهورية».

الأخطاء القاتلة

لا أحد يشكك في شرعية الانتخابات الآن في تونس ولا في شرعية وجود النهضة في الحكم، لكن سلسلة الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها الحكومة دفعت الكثير من التونسيين - كما يبدو ملاحظاً اليوم حسب اغلب استطلاعات الرأي - إلى التخلي عن مساندة الحكومة. فالتظاهرات اليومية الموزعة بين كل الجهات التونسية تكشف عن تنامي الغضب على الحكومة، وهو ما جسدته عمليات حرق مقارّ حركة النهضة المتواصلة، وهو ما يؤكد انحدار شعبيتها. فرغم تسويق «النهضة» لـ«مؤامرة تقودها أحزاب الصفر فاصل وبقايا النظام السابق»، فإنها لا يمكن ان تخفي اكثر فشلها وعدم التزامها ما اتُّفق عليه.
فمنذ اليوم الاول بدأت سلسلة نقض المعاهدات، إذ رفضت كتلتها في المجلس الوطني التأسيسي تحديد موعد لنهاية أشغال المجلس الذي حدده المرسوم الداعي إلى الانتخاب بسنة ترفض الآن النهضة التزامه، وتماطل أيضاً في تحديد موعد للانتخابات، وهو ما فتح الباب لاهتزاز الثقة بين الحركة والشعب التونسي، الذي بدأ يلاحظ بوضوح هيمنة النهضة على الإدارة بتعيين أنصارها والمقربين منها في المناصب الحساسة مثل المسؤولين الجهويين والمحليين وتوزيع أنصارها في المؤسسات التربوية ووضع يدها على القضاء والإعلام. كذلك عمدت الى سياسة «العصا لمن عصا» مع رجال الاعمال، فدخل الكثير من المشكوك في ثرواتهم في طاعتها وخدمة مشاريعها، فيما غضت الطرف عن السلفيين الذين يطبقون نظرية زعيم الحركة الشيخ راشد الغنوشي في التدافع الاجتماعي، فتحول السلفيون الى «شرطة» أخلاق غير معلنة يخربون النزل ويعتدون على الأرزاق والحريات والفنانين، مثل ما حدث في سيدي بوزيد والضاحية الشعبية دوار هيشر عندما اعتُدي على ضابط امن. اما احداث محافظة سليانة واستعمال الأمن لـ«الرش» الذي ذهب ضحيته عشرات الشبان فقد أفقدها نهائياً المساندة الشعبية التي كانت تحظى بها، على اعتبار ان ما حدث في سليانة لا يختلف في شيء عن قمع النظام السابق الذي ثار التونسيون عليه.
وفي سابقة غير محسوبة وتنمّ عن غياب تام للحنكة السياسية، دخلت الحكومة في لعبة ليّ ذراع مع النقابيين الذين استهدفتهم صفحات حركة النهضة بحملات تشويه منظمة تذكر التونسيين بأيام القمع. واعتُدي أيضاً على مقارّ الاتحاد. وقد كان الاعتداء الهمجي الذي استهدف المقر المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل في الذكرى الستين لاغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد خطأً قاتلاً ستدفع الحركة ضريبته غالياً وقد تكون له تداعيات سيئة على الحكومة بعد إعلان الاتحاد تنظيم إضراب عام يوم ١٣من الشهر الجاري لقي مساندة واسعة من اغلب القوى السياسية والحقوقية.
وفي مقابل كل هذا، فشلت الحكومة في تقديم مؤشرات حلول لمشاكل البطالة التي يتواصل ارتفاعها كل يوم والتضخم الذي عمّق الأزمة الاقتصادية، وفقدت على أثرها تونس، للمرة الاولى في تاريخها، موقعها في دافوس. كل هذه الحصيلة السلبية رافقها نزوع ظاهر في كتابة الدستور نحو تقليص مساحة الحرية التي تضمنها دستور ١٩٥٩، ما دفع رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان العميد عبد الستار بن موسى الى اطلاق صيحة فزع من إرادة التضييق على الحريات دستورياً هذه المرة، وذلك بإصدار فصل دستوري لإحداث المجلس الإسلامي الأعلى الذي سيكون سيفاً مصلتاً على المبدعين.

الحصيلة

بعد سنة من الحكم، تبدو النهضة في حال لا تحسد عليها، فالخدمات تراجعت في كل المجالات، الرشوة والفساد تفاقم حسب تقارير المنظمات المختصة، هيمنة الحزب على الدولة تعود تدريجاً بشهادة رئيس الجمهورية، حليف النهضة، محمد المنصف المرزوقي. الحريات في تراجع، الإعلاميون والقضاة يصارعون من اجل استقلاليتهم، الوضع الاقتصادي والاجتماعي في انحدار. هذه ابرز ملامح المشهد التونسي اليوم الذي تجمع عليه اغلب قوى المعارضة الى جانب غياب خريطة طريق واضحة لتنظيم الانتخابات وإحداث هيئة عليا لتنظيمها. وقد أدى هذا التراكم في الفشل الى عزلة النهضة، وخاصة بعد الانشقاقات التي هزت الحزبين الحليفين. فإذا كان وصول النهضة الى الحكم شرعياً، فإن إدارتها للدولة كان فيها الكثير من غياب النجاعة التي أثرت على صورتها وشعبيتها.

هل تغيرت النهضة؟

الكثيرون راهنوا على ان حركة النهضة استفادت من محنة المواجهة مع السلطة ومن المراجعات الفكرية والسياسية التي يفترض ان يكون قادتها قد قاموا بها في سجونهم ومنافيهم، وبالتالي نزوع الحركة الى ان تكون حركة سياسية بالأساس متمسكة بثوابت الجمهورية، بما فيها حقوق المرأة والحريات والطابع المدني. لكن كل المؤشرات التي لاحظها التونسيون بعد سنة من الحكم تؤكد أن النهضة أمامها وقت طويل للتخلص من الطابع الديني الذي يبدو واضحاً في خطاب قادتها وحتى وزرائها عندما يلتقون بقواعد الحركة، وفي استعمالها للمساجد وتجييش المشاعر الدينية، وهذا هو التحدي الاساسي الذي تواجهه الحركة التي كشفت عن نية واضحة في إعادة نمط الحزب الواحد الذي يهيمن على الدولة. ورغم التكتم الشديد على الخلافات الداخلية التي تشق الحركة، بدأ الشارع التونسي يتداول أنباءً عن خلافات عميقة بين أجنحة الحركة وخاصة بين تيارين، الاول يقوده زعيمها الغنوشي والثاني يقوده الرجل الثاني في الحركة رئيس الحكومة حمادي الجبالي، وقد اصبح هذا الصراع بينهما حديث الصحف والكواليس، بل يؤكد بعض العارفين بشؤونها الداخلية انها مهددة بانقسام قريباً.
ومهما يكن من امر الخلافات، فإن الثابت اليوم في الشارع التونسي ان الحركة فقدت الكثير من شعبيتها بعد فشلها في الحكم بسبب سوء التقدير والاستخفاف بذكاء التونسيين في محاولة انتاج النظام السابق بوجوه جديدة، من دون القطع مع بنية الاستبداد وآلياته. فهل يقبل التونسيون مرة اخرى استحواذ حزب على الدولة؟

حبس أنفاس استباقاً للإضراب العام



يترقّب التونسيّون موعد الإضراب العام غداً لمعرفة ما إذا كانت تهديدات الحكومة ستنجح في إفشاله، أم أن الاتحاد العام التونسي للشغل سيثبت قدرته على الحشد في وجه محاولات حركة النهضة وحلفائها بناء ديكتاتورية جديدة

لم توفر السلطات التونسية وسيلة إلا لجأت إليها في الأيام الأخيرة في محاولة لإفشال الإضراب العام، الذي دعت إليه قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، بما في ذلك تحريض أئمة المساجد وترهيب الموظفين في القطاع العام.
أئمة مدينة صفاقس، دعوا في خطبة الجمعة الماضية الى النزول الى الشارع للتنديد بقرار الإضراب العام، الذي دعت إليه قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، على أثر الاعتداء الذي تعرض له المقر المركزي وعدد من قياديي الاتحاد.
كذلك، نظمت رابطة حماية الثورة، المحسوبة على حركة النهضة الحاكمة، تظاهرات السبت الماضي احتجاجاً على الإضراب العام، مطالبةً بتطهير الاتحاد «من رموز الفساد وأيتام بن علي». ووزعت رابطة حماية الثورة وحركة النهضة مناشير تدعو الى «مقاطعة الإضراب العام والتمسك بالعمل في مواجهة اليسار الراديكالي» الذي تتهمه الحكومة وحركة النهضة بالسيطرة على اتحاد الشغل.
أما أحدث وسائل الترهيب، فتجسدت في إعلان الحكومة حسم يوم عمل لكل موظف يتغيب عن وظيفته يوم الخميس المقبل، الذي يفترض أن يكون يوم الإضراب العام. هذا الإجراء كان من بين الوسائل المعتمدة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وهو ما عدّه الحقوقيون التونسيون ارتداداً حقيقياً على مطالب الثورة، مشيرين إلى أن حركة النهضة الحاكمة والحكومة تحولتا إلى «الحارس الأمين للثورة المضادة».
ولجأت الحكومة إلى الترهيب بعدما وجدت أن أغلب مكونات المشهد السياسي التونسي تلتقي حول مبدأ الإضراب العام وإدانة حركة النهضة، والحكومة التي تبدو معزولة أمام الحراك الشعبي الكبير المتعاطف مع اتحاد الشغل، أحد المكونات الأساسية للحركة الوطنية التونسية.
وعبرت أغلب الأحزاب الكبرى المعارضة عن مساندتها للاتحاد العام التونسي للشغل، ورأت أن الإضراب العام قرار شرعي لصد هجمة حركة النهضة التي تسعى إلى بناء ديكتاتورية أشد سوءاً من نظام بن علي. كما ساندت معظم المنظمات الاتحاد الى جانب اتحاد عمال تونس والجامعة التونسية للشغل، إذ التقت المنظمات النقابية الثلاث لأول مرة ضد الحكومة وحركة النهضة وحليفها حزب المؤتمر، في الوقت الذي أيد فيه الحليف الثالث للنهضة حزب التكتل من أجل العمل والحريات مطلب المعارضة واتحاد الشغل الداعي إلى حل «رابطة حماية الثورة». ووصف التهامي العبدولي، كاتب الدولة المكلف بالشؤون الأوروبية في وزارة الخارجية التونسية عن حزب التكتل «رابطة حماية الثورة» بأنها «عصابات لتخريب الثورة». كما حذر من وجود مخاوف لدى الأوروبيين والأميركيين من مسار الانتقال الديموقراطي نتيجة ما سماه مجموعات «حماية الثورة».
ويرى الاتحاد العام التونسي للشغل أن هذه المعركة هي معركة وجود ضد ديكتاتورية ناشئة تسعى إلى استئصال الحركة النقابية لتقضي بذلك على أي إمكان للتحول الديموقراطي. وقد وجد الاتحاد مساندة مغاربية وعربية ودولية واسعة، إذ وصلت إلى تونس أمس وفود عربية ودولية لمساندة الاتحاد الذي لم يغلق باب الحوار.
ويملك الاتحاد العام التونسي للشغل كل إمكانات إنجاح إضرابه العام. فحركة النهضة الحاكمة خسرت الكثير من شعبيتها بسبب أداء الحكومة الضعيف وتورط مجموعات «حماية الثورة» القريبة منها في العنف، وهو ما يرفضه المزاج التونسي العام. أما أداء الحكومة فهو دون المتوسط بشهادة وزراء منها. إلا أن الاتحاد أبقى باب الحوار مفتوحاً مع الحكومة لتحقيق جملة من المطالب، وفي مقدمها حل رابطات حماية الثورة وتحديد موعد رسمي للانتخابات وتشكيل هيئة مستقلة لانتخابات وهيئة مستقلة للإعلام السمعي والبصري وهيئة مستقلة للقضاء.
كذلك يسيطر الاتحاد بشكل شبه مطلق على القطاعات الحيوية مثل النقل والتعليم والصحة والبريد والنفط والبنوك. لكن السؤال الذي يطرحه البسطاء، بكثير من الخوف، ماذا بعد الإضراب العام؟ وماذا سيتغير في جدول الأسعار الملتهبة، وإلى أين تسير تونس؟