وضعت السعودية نفسها متحدثة باسم العرب والمسلمين ورأس الحربة الأساس في الحرب على الإرهاب، مغيّبة بذلك الاتهامات الموجهة اليها بكونها الراعية للمجموعات المسلحة التكفيرية المتشرّبة تعاليم محمد بن عبدالوهاب في المنطقة والعالم.لا تبدو المملكة مقنعة وهي تضيء بناياتها الحديثة والفخمة بألوان العلم الفرنسي حداداً على قتلى المجزرة التي هزّت فرنسا قبل أيام. أطفأ برج إيفل أضواءه حزناً على مواطني العالم المتحضّر، وفق تصنيف الرئيس الأميركي باراك أوباما، ليشعلها في الجانب الآخر من العالم من اتهمهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتمويل الإرهاب في قمة العشرين التركية.

وبحسب الصحف الرسمية السعودية، التي تبنّت توضيح وجهة النظر الملكية، عدّد الكتّاب فضائل الحلقة الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي، التي فشل "داعش" في اختراقها، وشق الصف الخليجي، متهمين الإعلام القاصر بالتكاسل عن الدفاع عن مفهوم الإسلام ورواج مفهوم "الإسلام المتشدد"، ما يرفع من وتيرة الاسلاموفوبيا حول العالم.
خلف الحربي كتب في صحيفة "عكاظ" مقالة حملت عنوان "ليلة بشار الباريسية"، يقول فيها إن "تفجيرات باريس الآثمة بمثابة الهدية الغالية لجزار دمشق بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس، فقد استهدف الإرهابيون فرنسا التي طالما وقفت ضد بقاء بشار في السلطة ودافعت عن حقوق الشعب السوري منذ الأيام الأولى للثورة السورية"، ليزايد عليه إدريس الدريس في صحيفة "الوطن"، مصوّراً ذعر الفرنسيين وقبولهم بالمنطق الديكتاتوري المتمثل في قانون الطوارئ الذي عمل به ليلة الحادثة، وكون المملكة التي ما زالت تكتوي بنار الإرهاب من أكثر من 10 سنوات، "لم يقتض منها إغلاق الحدود وإيقاف الرحلات، ولم يكن كل ذلك سبباً في منع التجول، ولا السماح لقوى الأمن بتفتيش المنازل خلال الليل أو النهار دون حاجة إلى إذن قضائي، كما أنه لم يتم إغلاق الأسواق والمطاعم ومواقع الترفيه، ولم تتم إحالة الجنايات أو الجنح إلى محاكم عسكرية". إذاً الدولة الفرنسية برأي الدريس أدركت منطق السعودية في كون "الأمن مقدماً على كل ما سواه من امتيازات وحريات فردية، وأنها في سبيل استقرار الأمن وسيادته فإنها تنزع إلى التضحية بكل قيم الديموقراطية والحضارة".
وإذ رأى علي سعد الموسى في "الوطن" محاولة تبييض صفحة العرب والمسلمين بكيل الاتهامات العنصرية والطائفية، بالقول إن "أحفاد المهاجرين الأوائل من شتى المستعمرات الأوروبية، وبعد أجيال من "التوليد"، وجد هؤلاء أنفسهم في أزمة عقلية وذهنية لا تتحمل طبيعة التنافسية الشرسة على التعليم وفرص الإبداع والمستقبل والوظيفة مع أبناء المجتمع المستقبل الحاضن. وبلغة أكثر وضوحاً ومباشرة: اكتشفت هذه الأجيال الجديدة من أحفاد المهاجرين أنها ضحية الفوارق في التركيبة الفسيولوجية الصرفة ما بين عقلين".
ولم يكتف الموسى بذلك، محاولاً رمي تهمة التخلف والفشل في الاندماج وعدم تحرير الهوية المغلقة في ثقافة "الكانتونات" وفق تعبيره، وإدماجها "مع "العقل" الحاضن الذي "لا أتردد أبداً إن قلت إنه أكثر "تطوراً" في التركيبة التشريحية الفسيولوجية الخالصة"، الأمر الذي فشلت فيه الدول الأوروبية وخاصة فرنسا باتباعها الوصفة العلاجية الخاطئة في دمج العقلين ــ الحضاري والمتخلف ــ حسب التصنيف السعودي، حيث "لا يمكن لسيارة المرسيدس أن تسير مع "التاتا" في موكب واحد".
في المقلب الآخر، حاول خالد السليمان، في "عكاظ"، الطلب من أصحاب الاعتذارات الاستعراضية الهدوء بعد الضجة العربية التي حدثت على وقع الفاجعة الفرنسية، مبرراً ذلك بكونها "مواقف شخصية تتلبس مثالية ساذجة لا تخدم سياسات دولهم في مواجهة نتائج هذه الأعمال الإرهابية، ولن تغيّر شيئاً من نظرة الغرب المتعالية لأسباب الصراع وتحمل مسؤوليات نتائجه".
دائرة ضخمة من التحليلات المنطقية واللامنطقية حوتها صفحات الرأي السعودية يوم أمس الاثنين، منها ما كتبه الروائي عبده خال في صحيفة "عكاظ"، متّهماً الغرب بتنفيذ الخطة "ب" في تقسيم المقسم من تركة سايكس بيكو. فشل جماعة "الإخوان المسلمين" لم يثنهم عن تكملة مشروع الشرق الأوسط الكبير وفق رأي خال، إذ "تم إسناد مهمة نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار إلى داعش"، ولكن الغرب الذي وقع تحت مشرط الروائي السعودي، استمر في رسم الصور الفنتازية التي تخرج من المعقول السياسي المحكوم بالمنطق، إذ وفق تصوره، فشلت الخطة التي أنيطت بداعش بعد سقوط الإخوان و"تداخلت وأصبح الوليد شاباً مراهقاً يمتلك من النزق القفز على المخطط الموضوع له...وآخر قفزاته كانت سريعة وخاطفة من خلال ضرب الطائرة الروسية وتفجيرات باريس، وهما ضربتان أعلنت فيهما داعش ــ السرطانية ــ أنها قوة تتجه بضرباتها إلى الكبار".
وفي مقال بعنوان "شعوب العالم تقول كلنا فرنسا" ينتهي الصحافي السعودي محمد ناهض القوزير في صحيفة "الرياض" إلى التأكيد على اتباع فرنسا المنفتحة في السابق على منطق المملكة الأمني، متفاخراً بخروجها أكثر قوة "وإصراراً على اجتثاث الإرهاب في كل مكان تصل إليه، وانضمت إليها جميع دول العالم باستثناء إيران وسورية".
ولا يمتنع الكاتب السعودي عن تلقّي حالة الذعر الفرنسية الطارئة وتوصيفها، كونها حليفة لبلاده التي حدّد ملوكها أسس الحرب على المارقين في قصورهم، كونها لن تحيد عن الأوامر الملكية، كما أريد لها "حرباً بلا هوادة على داعش والنصرة وأنصار الله. حرب لا أسرى فيها ولا غوانتنامو".
خوف المملكة من تمزق علاقتها مع الغرب دفعها إلى التلوّن بألوان العلم الفرنسي. هي تقول إن ما حدث هو حقد على الحضارة، وتطلب مدّ يد الغرب لها كي لا يحدث لشوارعهم ما يحدث كل يوم في شوارع العراق وسوريا ولبنان. وسنشهد، للمفارقة، أن الغرب سيغلب حزمة مصالحه ويمد لها هذه اليد، لتكون بذلك مملكة البرابرة حامية الحضارة و"داعش" في آن واحد.