حلب | دمشق | ما الذي يجتمع عليه السوريون ويوحدهم اليوم؟ يبدو السؤال مستهجناً إلى حدّ كبير، بعد قرابة عامين من دخول سوريا على نحو تدريجي، في أزمة معقدة ومختلفة الأوجه، تطورت بصورة سريعة جداً إلى حرب دموية، حوّلت أبناء البلاد من مدنيين وعسكريين، على اختلاف اقتناعاتهم السياسية وعلاقتهم مع النظام الحاكم، إلى مجرّد أرقام تتداولها الفضائيات الإخبارية ووسائل الإعلام المختلفة.جاء فصل الشتاء وبرده القارس سريعاً هذا العام، ليكشف عن حجم المعاناة الحقيقية التي يعيشها السوريون، بعد فشل جميع محاولاتهم اليائسة في التغلب على الصعوبات والنكسات الاقتصادية التي سببتها الحرب.

لا حديث للشارع السوري اليوم، على اختلاف أطيافه، الموالية والمعارضة للنظام الحاكم وما بينهما، سوى أزمة فقدان الوقود ومشتقاته المختلفة من الديزل والغاز والبنزين والارتفاع الجنوني لأسعارها، في حال توفرها في السوق السوداء، بعيداً عن أعين أجهزة الرقابة المختصة بمكافحة السوق السوداء، حيث يتراوح فيها سعر ليتر الديزل ما بين 65 و150 ليرة سورية (من دولار واحد إلى دولارين أميركيين).
أما سبب الأزمة، فبررته السلطات السورية الحكومية المختصة «بتفجير العصابات الإرهابية المسلحة خطوط نقل المحروقات في عدد من المحافظات، والازدياد الكبير في طلب المواطنين على مادة الديزل للتدفئة المنزلية مع بداية فصل الشتاء».
لكن الوعود التي تتداولها وسائل الإعلام السورية الرسمية، بخصوص حلول قريبة وجذرية لأزمة المحروقات، لن تتحقق في القريب العاجل، واستمرار الأزمة لأيام أخرى سيدخل البلاد في حالة عجز من الصعب الخروج منها، في ظل الحرب الدائرة والمستمرة اليوم.
أزمة الوقود هذه خلّفت وراءها أزمات خبز وكهرباء، جعلت من حياة المواطنين ظلمة حالكة، فلا أمن، ولا محروقات تؤمن لهم التدفئة وتقيهم شر البرد ،الذي يزداد قساوة مع تقدم فصل الشتاء، وتملأ خزانات وسائل مواصلاتهم، ولا خبز يستر جوعهم.

أزمة الخبز

أمام الفوضى والعنف الإنساني غير المباشر الذي تسبّبت به أزمة المحروقات في مختلف المدن والمحافظات السورية، يبقى مشهد الازدحام غير المسبوق على أفران الخبز في العاصمة دمشق وضواحيها، الأشدّ إيلاماً ووقعاً وتعبيراً عن الحالة التي وصلت إليها حياة المدنيين البسطاء. يصطف مئات المواطنين منذ ساعات الصباح الباكر وحتى ساعات متأخرة من مساء كل يوم، في طوابير طويلة أمام الأفران في انتظار حصولهم على رغيف خبزهم اليومي.
لا فرق بين موالٍ أو معارض للنظام في طوابير الخبز الطويلة، سوى المسافة التي تفصله عن الحصول على خبز أطفاله وعائلته. تتعدّد قراءات أزمة الرغيف وأسبابها. البعض فسرها على أنها تندرج في إطار قلّة المحروقات المشغلة للأفران الحكومية والخاصة على حدّ سواء، لكن حواراً سريعاً مع مواطنين واقفين في طابور انتظار طويل على أحد الأفران في دمشق، يكشف خفايا أخرى: «لقد دمرت الحرب أفران الخبز في المنطقة التي نسكنها. يحضر إلى هذا الفرن القريب مئات المواطنين من منطقتنا للحصول على الخبز».
أما في حلب، فقد بات الخبز هدفاً للسطو؛ فمنذ بداية رمضان الماضي، وبدء حرب تحرير حلب التي أعلنتها المعارضة، بدأ السطو على المخزون الاستراتيجي من القمح المخزن في صوامع كبرى، بالقرب من مناطق إنتاجه والخطوط الحديدية والطرق لتسهيل نقله.
ويقول عبد القادر أبو محمود، وهو من سكان مدينة الباب، إنّه جرى نهب كمية كبيرة من قمح صوامع الباب وبيعه لتجار أتراك بعد توزيع حصص للأهالي باسم الثورة للتمويه، إلا أن غضب السكان تعالى على المسلحين، ما دفعهم الى التوقف عن بيعه للأتراك.
في المقابل، أثار تفكيك إحدى أكبر المطاحن الحكومية وبيعها كخردة لتجار أتراك استياء بعض داعمي الثورة المسلحة من النخب العلمانية في المدينة، فطالبوا على صفحاتهم في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» بالتوقف عن هذه الممارسات التي «تعود بالضرر على الثورة وتساهم مع النظام الذي يحاصر حلب وأهلها بلقمة عيشهم».
أزمة الخبز في وجه منها هي نتيجة لأزمة الوقود، الأمر الذي تحول مع ضعف قبضة السلطة ورقابتها إلى تجارة مربحة لأصحاب الأفران الذين يبيعون مخصصاتهم من الطحين المدعوم بثلاثة أضعاف سعرها للأفران الخاصة، التي تنتج الخبز السياحي والمعجنات، ما يحقق لهم أرباحاً طائلة هي أضعاف ما يحققونها فيما لو خبزوا الطحين وباعوه للمواطنين بسعره الرسمي، علاوة على أرباحهم من بيع المازوت المدعوم (يقدم لهم بسعر 9 ليرات فقط) نتيجة عدم التشغيل.
نظام «البعث» يرى أن الخبز هو خط أحمر، وهو حرص طوال عقود على إبقاء أسعاره زهيدة، ويبلغ سعر كيلوغرام الخبز الأبيض المدعوم 8 ليرات، في وقت كان فيه سعر الشعير والعلف لا يقل عن 20 ليرة سورية.

حلب المنكوبة

تعيش حلب أسوأ أيامها منذ قرن. ظلام دامس وشحّ في الخبز، وأسعار الوقود خياليّة إن توافرت. الغضب العارم على المسلّحين، والثورة المنفلتة من أي روادع، يرافقه غضب على السلطات لتقصيرها في ردّ الجميل للمدينة وحمايتها من التدمير، وهي التي رفضت الفتنة ووقفت مع الإصلاح.
حلب المدينة التي لا تنام حتى الفجر، غرقت في ظلام دامس ليلة الأربعاء، وقد تجاوز سعر كيلوغرام الخبز 150 ليرة سورية (20 ضعف سعره الرسمي)، والبنزين أربعة أضعاف سعره الرسمي، والمازوت ثمانية أضعاف سعره الرسمي، فيما تجاوزت أسطوانة الغاز المنزلي عشرة أضعاف سعرها الرسمي وتجاوزت عتبة الـ 4000 ليرة سورية.

أما الخروج من حلب، فهو محفوف بمخاطر قطع الطريق، التي يسخر الحلبيون من تراجع حدّتها «لأنه لم يبق ملايين لدى الحلبيين كي يدفعوها فدية لتحرير مخطوفيهم لثوار ريف إدلب الذين زحفوا لتحرير حلب».
الأوضاع الحالية تذكّر بمرويّات أهل حلب عن أيام سفر برلك في الحرب العالمية الأولى، حين واجهت الدولة العثمانية المسيطرة على حلب آنذاك غزواً أوروبياً سبّب مجاعة وأوبئة وانتشار قطاع الطرق. وإن كان المشترك في الحالتين في بداية القرنين الماضي والحالي، هو التدخل الغربي ودوماً من أجل «حرية الشعوب».
عاشت حلب ليلتين مظلمتين لأول مرة في تاريخها منذ دخول الكهرباء إلى الاستخدام المنزلي في بداية القرن الماضي، وسط ندرة وارتفاع شديد في أسعار المحروقات. وقال مصدر في شركة كهرباء حلب لـ«الأخبار» إنّ «ورشات الصيانة تعمل على إصلاح العطل الذي سبّبه هجوم إرهابي على نقطة وصل حلب القريبة من المحطة الحرارية في السفيرة، والتي منعت الاستفادة من الشبكة السورية بعد إخراج 1050 ميغاوات من الخدمة نتيجة استهداف الإرهابيين خط ضخ الغاز للمحطة». وأكد المصدر أن جميع قطع التبديل المطلوبة للصيانة موجودة في مستودعات المحطة، وأنه سيتم وصل التيار إلى أحياء حلب اعتباراً من يوم الجمعة المقبل، على أبعد تقدير، مشيراً إلى أن الضغوط كبيرة على الشبكات.
ومع انتشار نبأ تعرض المحطة الأكبر في سوريا لعملية تخريب، ارتفع الطلب على الوقود بقصد توليد الطاقة الكهربائية، فقفز سعر ليتر البنزين من 100 ليرة إلى 190 ليرة (سعره الرسمي 55 ليرة)، وسعر ليتر المازوت من 110 إلى 225 ليرة (سعره الرسمي 23 ليرة).

المواصلات

أزمة الديزل تبرز أكثر في دمشق من خلال المواصلات العامة والخاصة؛ فأكثر من مليون ونصف مليون زائر يدخلون العاصمة وحدها يومياً، ما بين موظف حكومي أو عامل في القطاع الخاص والطلاب من مختلف المراحل التعليمية. وهناك أيضاً من يزور العاصمة لإنجاز معاملة في إحدى الوزارات أو الدوائر الحكومية المختلفة، وهذا يتطلب حركة كبيرة من وسائل النقل المختلفة، التي يعمل معظمها على الديزل.
مشاهد الشجار والعنف والشتائم المتبادلة التي تتكرر بكثرة بين ركاب الحافلات الكبيرة، في معظم محطات الانطلاق أو الشوارع المكتظة، أبلغ تعبير عن المستوى الذي وصلت إليه الأزمة. هناك انعدمت سيطرة شرطة المرور على المخالفات والتجاوزات، وسط أجواء تسيطر عليها فوضى لم تشهدها عاصمة الأمويين في تاريخها. وأخبار كثيرة تفيد عن إضراب سائقي حافلات الأجرة المتوسطة الحجم العاملة على خطوط ضواحي العاصمة.
هذا الواقع يشرحه لـ«الأخبار» نزيه أبو فخر (44 عاماً)، الذي يعمل سائق حافلة منذ 15 عاماً، ويقول «ربما نكون أُجبرنا على الإضراب. فقدان الوقود حتى من محطات الوقود الحكومية عطل عملنا بصورة شبه كاملة. حافلاتنا مركونة في محطات الانطلاق بانتظار وصول الوقود مجدداً». ويؤكّد لنا أنّ «أصحاب الحافلات العاملة اشتروا الوقود من السوق السوداء بأسعار متفاوتة»، متسائلاً «أتوجه بالسؤال هنا إلى أصحاب القرار والشأن الحكومي، وتحديداً نائب رئيس الحكومة السورية للشؤون الاقتصادية الدكتور قدري جميل: من أين تصل هذه الكميات الكبيرة من مادة الديزل إلى السوق السوداء؟ ومن المستفيد من هذا الفساد بعدما رفع بنفسه سعر ليتر الديزل 25 في المئة كي لا نصل إلى هذه الحالة؟». وهذا ما يبرر رفع سائقي الحافلات تعرفة الركوب على مزاجهم الشخصي، التي قد تصل الى أضعاف التعرفة الأصلية مرات عدة.
أما المواطن المغلوب على أمره، فلا خيار أمامه سوى دفع التعرفة المطلوبة، أو الانتظار مكانه إلى ما شاء الله. «لا مجال اليوم لمراعاة الذوق أو الأخلاق العامة. من يتح المجال لامرأة أو رجل عجوز للصعود أو الجلوس مكانه في حافلة أو وسيلة نقل، عليه أن يبقى ساعات طويلة ينتظر فرصة ركوب أخرى»، يقول نضال، الشاب الجامعي الذي أرغمه الازدحام والتدافع الشديدان داخل باص للنقل العام، على النزول في أول موقف خشية السقوط. ويضيف «أفضّل في أحيان كثيرة السير ساعات وقطع مسافات طويلة جداً، كي أتمكن من ركوب وسيلة نقل عائدة إلى مركز العاصمة، وأتابع معها طريق العودة مجدداً إلى منزلي، وقد تستغرق رحلة العودة هذه من 3 إلى 5 ساعات يومياً».
«العدادات التي تحدّد الأجرة المطلوبة من الزبون، وتعديلاتها المتكررة مع كل زيادة، لا تأخذ في الحسبان الحواجز المنتشرة في العاصمة دمشق، وعلى مداخلها جميعاً، ولا الازدحام المروري الخانق بسبب إغلاق العديد من طرقات العاصمة الرئيسية وتحويلها لأسباب أمنية»، يوضح أبو محمد (51 عاماً)، سائق سيارة الأجرة، الذي فضل إطفاء عداد سيارته وعدم التقيد به، غير مكترث بالمخالفة المرورية، واتباع أسلوب تحديد الأجرة مسبقاً مع زبائنه: «أقدّر الأجرة بحسب المسافة، وحجم الازدحام، وعدد الحواجز الأمنية التي سأرغم على التوقف عليها».
أزمة المحروقات والمواصلات والخبز، ستنقل البلاد إلى مرحلة أشد قسوة وإيلاماً على حياة المواطنين المدنيين البسطاء، الذين فرّقتهم السياسة، ووحّدهم رغيف الخبز.



عتب حلب على النظام والثورة

الانتقادات اللاذعة للثورة وممارساتها تترافق مع عتب شديد على السلطة، التي يعتبرها الحلبيون مقصرة في حمايتهم وتوفير مقومات الحياة لهم. ويرى يزن طحان أن «حلب لم تخذل الرئيس ووقفت معه ضدّ المؤامرة، لذلك لا يجب خذلانها وتركها لجماعات مسلحة حاقدة على حلب، دمرت معاملها ونهبت أسواقها وحرقتها».
أما ميساء العمري فتقول إن «حلب لا تقل أهمية عن العاصمة دمشق، وقد آن الآوان لزجّ قوات كافية كما حصل في دمشق للقضاء على المسلحين وتوفير مقومات الحياة البسيطة من خبز ومازوت للتدفئة وغاز للطبخ»، فيما يرى جورج بلان أنّ «السلطة وحدها تتحمل مسؤولية الخروج من الأزمة عبر الاعتماد على لجان شعبية بإشراف الجيش حصراً، لأن الشعب فقد ثقته بالإدارة المدنية الفاشلة المخترقة من قبل الإرهابيين».
لكن الأمر لدى المعارضين لا يعدو كونه عقاباً فرضه النظام على حلب. ناهد، وهي متخرّجة جامعية، ترى أن «السلطة التي لا توفر الطحين والخبز لمؤيديها، عليها أن ترحل». وتجزم بأن الأزمة «مفتعلة من قبل السلطة لتخويفها من الثورة. الجيش الحر هو من يزوّد حلب بالطحين، وينظّم الدور على الأفران، ويقدّم الخبز للفقراء مجاناً، وقد شاهدت ذلك بعيني»، فيما يؤكد إبراهيم مقرش أن «الجيش الحر يحمي الصوامع من اللصوص والشبيحة، الذين يبيعون القمح لتركيا لتشويه سمعة الثورة وضرب الأمن الغذائي للشعب لمعاقبته على الثورة».



المازوت والتهريب

في بداية الأزمة السورية، خفضت الحكومة السورية سعر المازوت من 20 إلى 15 ليرة سورية، في وقت كانت فيه الشاحنات التركية تستفيد بما يقدر بـ 100 مليون دولار سنوياً، ويجري تهريب كميات مضاعفة منه إلى تركيا، التي كان يبلغ سعره فيها آنذاك ما يوازي 80 ليرة سورية.
وقبل أكثر من عام، تعرّضت أنابيب نقل الوقود من مصفاة باتجاه حلب، في مناطق مرورها بمحافظة إدلب، للتدمير، ما أخرجها من الخدمة، فتمت الاستعانة بأسطول برّي من الصهاريج، التي تعرضت بدورها للنهب والتدمير والإحراق في كمائن اشترك فيها مئات المسلّحين. ولم يتوقف تهريب المسلحين للمازوت باتجاه لبنان وتركيا، إلا بعدما وصل سعره في سوريا إلى ما يقارب سعره في لبنان، ومن ثم في تركيا.
وتساءل عمار، وهو تاجر فقد مستودعات سيطر عليها المسلحون: «لماذا لا يقوم المهربون الذين أصبحوا جيشاً حراً بعد تشدد الدولة بمكافحة التهريب نحو تركيا، بتهريب المازوت من تركيا، حيث يقل سعره وغير مدعوم، ليباع عندنا بربح معقول ويساهم ذلك في كسر حدة الأزمة؟».
أما بشار حميد، فرأى أن «ثوار سوريا رثوا الحمير المستخدمة في تهريب المازوت إلى تركيا، والتي تقوم السلطات الجمركية بإبادتها، كما فعل المخرج أسامة محمد في مقالة شهيرة، ولا يرثون حلب التي يبحث سكانها عن ليتر مازوت بخمسة عشر ضعف سعره الرسمي ولا يجدونه».
الاعتداء على خطوط نقل الغاز ومحطات التعبئة وتوقف قوافل الصهاريج أديا إلى خفض الإنتاج. ومع ازدياد الطلب وصعوبة النقل، ارتفع سعر أسطوانة الغاز إلى أكثر من 4000 ليرة، فيما يسيطر المسلحون على تجارة الأسطوانات وتزويد المدينة بها بعد تهريبها من المحافظات الأخرى، حيث تباع بسعر يتراوح بين 500 و800 ليرة.