غزة | منذ عام فقط، بدّل العم سهيل (52) عاماً عمله من توزيع قوارير الغاز إلى توزيع المياه المفلترة، فحرفة كهذه أصبحت ذات أهمية كبيرة أخيراً بعد ازدياد نسبة الملوحة في مياه الشرب داخل القطاع. فكّر الرجل البسيط، الميّال بطبعه للمزاح، بشراء عربة صغيرة يتجوّل بها في الطرقات. عربة صغيرة كانت تزعجه باحتياجها الدائم للصيانة، وغالباً ما كانت تعيده إلى البيت مسودّ اليدين لمحاولته إصلاحها، حتى إنّ الكثير من الجيران كانوا يسألونه، ممازحين، التضحية من أجلها بذبيحة، لرفع الحسد عنها، ما كان يضحكه كثيراً.
وبالطبع، لم يكن إعلان الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة شيئاً مفاجئاً لصاحبنا، لكنّه لم يموّن المنزل بالمواد الغذائية كما اعتاد، مثلما طلبت زوجته
إليه.
«تقلقيش بنموتش من الجوع»، كان يقول لها. وكلّما تخوف الأقرباء من هول الحرب، ردّ عليهم ممازحاً بجملة شهيرة للشهيد عبد العزيز الرنتيسي «سننتصر يا بوش».
وبرغم الحرب، رفض تغيير عاداته: يبدأ يومه بصلاة الفجر، يتناول فطوره، يخرج إلى العمل، أحياناً يعود ظهراً مثلما فعل يوم استشهاده، مسودّ اليدين جرّاء محاولاته المستمرة لإصلاح عربته الصغيرة التي لم يسدد ثمنها بعد. عاد ذلك اليوم ليتناول غداءه الأخير.
تصمت زوجته فجأة، مخبرة إيانا عن لحظة خروجه بعد ظهر اليوم ذاته برفقة ولدها مؤمن المعروف بشقاوته. بعد قليل، عاد الولد الى البيت، وذهب الشقيق عاشور بدلاً منه لمعاونة والده، فاستشهدا معاً. آنذاك، ظنّ الجميع أن مؤمن هو من استشهد، لا بل إنّه حتى اللحظة كثير من وسائل الإعلام تُسجل اسم الشهيد مؤمن وليس عاشور. لكنّه الموت يختار من يُريد.
عاشور ابن العشرة أعوام، الهادئ كما وصفه الأقارب والجيران، كان مثال الولد «المرضي»، وخصوصاً مع والدته التي كانت تقصّ كيف كان يُفاجئها بفطور صباحي لحظة استيقاظها.
ليس هذا فقط، بل كان يساعدها في جميع أعمال المنزل من تنظيف أرضيات إلى تحضير مشروبات لضيوفها، حتى دون أن تطلب منه ذلك. وقبل هذا وذاك اهتمامه بحفظ ستة أجزاء من القرآن الكريم. قبل استشهاده بأيّام قليلة، رغب في صورة مكبّرة له، لكن، وللأسف، ومثلما يحدث غالباً تحققت أمنيته بتكبير صورته بعد فوات الأوان.
أمّا بالنسبة إلى والده سهيل، الذي رغبت وسائل الإعلام في الحصول على صورة له بعد استشهاده، فليس له أي صورة حديثة. كل ما في الأمر أنّه لم يرغب في التقاط الصور له طوال عمره، إلا للضرورة المرتبطة بتوثيق الأوراق الرسمية بصور شخصية، وكلّما حاول أولاده التقاط صورة له عبر أجهزتهم النقّالة، كان يشيح بوجهه عنهم. وكثيراً ما يغضب إن ألحّوا عليه بذلك.
حينما توافد الصحافيون على هذه العائلة ليتعرّفوا على هذا السهيل، لم يجدوا سوى لقطات صور زواجه منذ خمسة وعشرين عاماً.
«حوشوهم»، يذكره جيرانه اليوم آسفين بتلك الكلمة التي كان يزعق بها ممازحاً من بعيد زبائنه الذين تأخروا بسداد ديونهم، هم يتذكرون كلماته تلك، الحاضرة اليوم، بحضور ضحكاته التي لا تزال ترن في آذانهم.
كان سقا «بيت لاهيا» يقاوم بإصراره على الحياة، مقتنعاً بكل لحظة فيها. فالمقاومة تكون أيضاً بتقديم الواجب في كل الظروف دون أي استثناء. لهذا كان السقا يروي العطاش... ولهذا روى تراب غزة.