الطريق إلى مخيم البداوي لم يعد سهلاً. شارعه الرئيس مستنقع من الوحل. بعض متفرعاته فيها شيء من الإسفلت الانتخابي اللبناني. كان انتصار غزة قد أبعد الهموم المباشرة لفترة قصيرة من الزمن. لكن مستنقعات الوحل التي يتمرغ بها طلاب المدارس كل يوم، والصراخ الذي يعلو من شدة الزحمة، لا لشيء، إنما لأن قرار تنفيذ الحفريات في الشارع العام لتمرير قساطل المجارير، يحل كالقدر الذي لا راد له، فهو صادر عن جهات عليا من مؤسسات الأمم المتحدة، ولا يملك فلسطينيو البداوي تأجيل التنفيذ حتى انتهاء موسم المدارس، أو مرور فصل الشتاء على الأقل. فإذا بلافتة يتيمة ترفع فوق المصلبية الأكثر ازدحاماً بالمارة، والأكثر تجميعاً للمياه والوحول، من أجل مناشدة المعنيين بالإسراع في إنهاء الحفر.
ذلك مثال بسيط حول طريقة تنفيذ مشاريع الأمم المتحدة، فما البال إذا كان الأمر يتعلق بدولة فلسطينية؟ وكم من الوحل سيتكدس فوق قرارات إعلانها قبل أن ترى النور؟ تلك هي حصيلة جولة على الناس في أزقة البداوي.
في البداوي، بريق النصر الغزاوي بهتت ملامحه بعد الزيارة «الأربعتش آذارية» إلى غزة. «نصرة» أنطوان زهرة، بشكل خاص، لأبناء غزة وفلسطين، حفز النقاش حول معنى الانتصار، وساعدت في امتداد الشوشرة المتعلقة بمندرجات الهدنة الموقعة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الأمر الذي حجب الموعد المنتظر لإعلان دولة فلسطين. فاستفاق أهالي البداوي ذات ليل على صوت المفرقعات ابتهاجاً بإعلان الدولة الفلسطينية عضواً مراقباً في الأمم المتحدة.
لم يكن استقبال إعلان الدولة المذكور بالعفوية والإجماع اللذين استقبل بهما إعلان النصر في غزة فحسب، بل ثمة من لم يكن مكترثاً لموعد الإعلان أصلاً. يقول أحدهم في جواب عن سؤال ابنته التي استفاقت على أصوات إطلاق النار «هل تتقاتل الفصائل في ما بينها يا أبي؟» يجيب الوالد متهكماً «كلا يا ابنتي، المقاتلون يفرغون ذخيرتهم ويطلقونها في الهواء، فلسطين تحررت، والعودة تحققت».
ويعلق آخرون بسخط شديد على إعلان دولة لا تشمل سوى 22 بالمئة من مساحة فلسطين، فتعيد ميسون مصطفى أمام «الأخبار» ما كتبته على صفحة الفايسبوك «لنرفع الأعلام السوداء احتجاجاً على إعلان دولة فلسطين غير عضو بالأمم المتحدة/ وركزوا على غير عضو، وعلى أراضي 67، اللي ما عنده علم أسود يرفع شرشف، كنزة خربانة، حفاية سودا».
ويتهكم آخر في تفسيره لمعنى العضو المراقب برواية يقول فيها إن ولداً سأل جدته عن معنى العضو المراقب، فتجاوبه «يا تيتا إن العضو المراقب يقف من بعيد ويتفرج حتى يفرغ له كرسي، ليجلس عليه، ويقفل فمه، حتى ما يزعبو».
ومثل الكثير من الفلسطينيين، يسمي شادي أبو عايد ابنته الوحيدة تيرا تيمناً باسم بلدته الطيري. وبلدة الطيري تقع في ما يعرف في الأراضي المحتلة عام 1948، لذلك يقول شادي «ما شأني والدولة المزعومة التي لا وجود لبلدتي على خارطتها»، ثم يضيف «لا جدوى للقرارات الأممية التي لم ينفذ منها إلا القرار 425». وسواء جرى اعتبار الأراضي المشمولة بدولة فلسطين الوليدة أراضي محتلة، أم اعتبرت الأراضي الواقعة ضمن ما يسمى المناطق المتنازع عليها، بكافة الأحوال يقول شادي «لن ترسل الأمم المتحدة جيوشاً لتحررها، فهذه الجيوش تأتي لتحرير العراق من أبنائه، وتتحضر لدعم ما يسمى بالربيع العربي، أما القرارات التي تخص العدوان الإسرائيلي مثل الـ425 فلم تطبق إلا بقوة المقاومة».
أما أبو محمد الغزال فيعتبر أن الأمم المتحدة هي التي أوجدت الكيان الإسرائيلي، وبالتالي فمن يذهب إليها كمن يذهب إلى الجحيم. أما الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية صاحبة اليد الطولى في الأمم المتحدة، فهي التي تمد إسرائيل بالسلاح والمال، وتعتبر أن أمن إسرائيل ومصلحتها فوق كل اعتبار، وهي بالأصل اليد الطولى لتلك الدول في المنطقة. يكمل الكلام شخص يقف إلى جانب الغزال، ويمتنع عن تقديم اسمه، فيقول إن ما يسمى «دولة فلسطين المعلنة» شطب لحق العودة لفلسطيني الشتات، لأن معظمهم هجر من الأراضي المحتلة عام 1948، وخصوصاً اللاجئين إلى لبنان وسوريا. وبالمقابل، فإن إعلان الدولة الفلسطينية بمثابة تكريس لوجود دولة إسرائيل. ثم يضيف أنه يراد أن يكون إعلان الدولة بمثابة «إنجاز دبلوماسي» يساوي الإنجاز الذي حققته غزة عن طريق المقاومة.
عندما كانت صواريخ المقاومة تسقط على إسرائيل كان أهل البداوي يتسابقون لتقديم التصريحات للإعلام. ولكن عندما يتعلق الأمر بتحليل طبيعة الاتفاق بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل بعد إعلان الهدنة، أو بتفسير معنى الإنجازات الدبلوماسية، يصبح الصمت سيد الموقف. وإذا تحدث أحدهم يفضل الامتناع عن التعريف بنفسه. وبعد إلحاح يقول عجوز جالس في دكانه «يعني أنا شو بدي بالسياسة، والمهم ترجع فلسطين»، وبسؤاله «ألا يكون استرجاع فلسطين بالسياسة»، يظهر الضيق عليه، يكاد ينفجر بالبكاء، ويقول «ما بدنا مشاكل بين الفصائل، بدنا ياهم يتفقوا، ما فينا نحكي شي».
ما يمتنع عن قوله أبناء المخيم، يمكن ملاحظته على صفحات التواصل الاجتماعي، فأحدهم يكتب: يا فلسطين كلهم كذابين من اليسار حتى اليمين ومن العلمانيين، للثورجيين، للإخوان المسلمين. واحد ما بده صفد، والثاني يستقبل اللي دمنا سفك، والتالت يا خوفي منه بكرا تخبرك السنين.
وآخر: لا لفتح – لا لحماس – لا للقيادة العامة – لا للجهاد الإسلامي... لا لا لا خربتو بيتنا الله يخرب بيتكو، العالم ماتت من الجوع من وراكو، وراحت فلسطين من وراكو، ما بدنا ياكو حلو عن ظهرنا عادددد.
اما في مخيم برج البراجنة، فما ان اعلن ان فلسطين اصبحت دولة حتى أفرغ ابناء فتح رصاصهم في الهواء ابتهاجاً. ابناء منطقة برج البراجنة لم يعرفوا سر اطلاق الرصاص، واعتقدوا انه اشكال اخر داخل المخيم. لكن وبمجرد خروج الدراجات النارية من ازقة المخيم الى المناطق المحيطة، وسماع الهتافات التي قيلت فُهم سبب اطلاق النار. بالطبع لم يتفق اللاجئون على هذه الخطوة، اذ رأى ابو مصطفى الشعفاطي انها «جيدة لابناء الـ67 بينما تظلم ابناء الـ48 الذين خرجوا من ارضهم»، يقول.
شعفاطي من مدينة عكا ولا يزال يذكر بواباتها الشمالية والجنوبية. وهو لا يريد دولة لا تعيده الى مدينته التي هجر منها عندما كان طفلاً. اما ابراهيم ابن حركة فتح فقد رأى في اعلان الدولة خطوة جيدة الى تحرير كامل التراب الفلسطيني. ويقول «انتصرت المقاومة في غزة، وانتصرت السياسة في رام الله». يضيف ان «اسرائيل جنّت من خطوة الرئيس عباس، واعلان الدولة لا يعني التخلي عن فلسطين التاريخية، اذ يمكننا ضم الاراضي التي تحرر الى دولة فلسطين».



تحولت السلطة الى دولة فلسطينية. ترفيع تمثيل الفلسطينيين في الامم المتحدة الى مرتبة دولة الغى دور منظمة التحرير الفلسطينية في المنظمة الاممية، اذ كانت منظمة التحرير تملك صفة مراقب في الامم المتحدة وفقد دورها بعد الاعتراف بدولة فلسطين. ماذا يعني ذلك؟ تهديد صفة اللاجئين الذين تعتبر منظمة التحرير ممثلهم الشرعي. يعني؟ تحويل السلطة الفلسطينية الى دولة، ما يهدد حق العودة فتعتبر اسرائيل انه حق العودة الى «دولتهم» لا «ديارهم» الموجودة داخل اراضي 48 كما هو منصوص عليه في مواثيق الامم المتحدة. يذكر أن اعلان دولة فلسطين لا يحوّل ابناء المخيمات الى جالية فلسطينية في البلدان الذين هم فيها، لأن الصفة القانونية للاجئ الفلسطيني تختلف عن اللاجئين العاديين الهاربين من بلدانهم.