رغم سيطرة حالة من الرفض بين القوى الليبرالية واليسارية للمسوَّدة النهائية للدستور، وما سبقها من انسحاب عدد كبير من أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور، إلا أن لمسوَّدة الدستور الجديد من يدافع عنها ويقدم حججاً للدلالة على صوابية خياره. المدافعون يرون أن الانسحابات أتت متأخرة وغرضها مصالح شخصية.

عدد من الحجج يدفع بها مؤيديو مسوَّدة الدستور والجمعية التأسيسية، لعل أبرزها ما يرون أنه غياب طلبات محددة أو بنود بعينها يوجد اعتراض عليها من قبل المنسحبين، وهو ما دفع المتحدث الرسمي لحزب النور، نادر بكار، إلى وصف ما أقدم عليه المنسحبون بأنه «انتهازية سياسية»؛ لأن مطلبهم لم يكن حل الجمعية بأكملها وإعادة تشكيلها، بل مد عمل الجمعية فقط. واتهمهم بمحاولة وضع العصا في العجلة لوقف سير عمل الجمعية، لغرض في أنفسهم.
المدافعون عن الجمعية يؤكدون كذلك أنها تعمل منذ 6 أشهر، أما من انسحب فمنذ أيام فقط. أي إن المنسحبين شاركوا في وضع مواد كثيرة واعترضوا على مواد أخرى وتفاعلوا إيجاباً وسلباً. ويضيف المؤيدون: «من الدهشة أن يتذكروا الآن أن الجمعية لا تمثل كافة المصريين»، إضافةً إلى أن الجماعة الإسلامية في بداية تشكيل الجمعية قد تنازلت عن حصتها. وهذا الأمر يشير إلى أن الإسلاميين هم من يريدون للأمور أن تستقر وتسير، بعكس القوى العلمانية والليبرالية التي سعت إلى عرقلة عمل الجمعية.
ومما ساقه المدافعون أيضاً، أن اللوائح التي وضعت لتنظيم سير عمل الجمعية، كان متفقاً عليها، وكان من بين الاتفاق أن يكون التصويت في البداية بنسبة 67 في المئة من الحاضرين، ثم تنخفض إلى 57 في المئة ثم 50 في المئة +1. وبالتالي، القول إن الإسلاميين يسيطرون على الجمعية ليس صحيحاً، ولا سيما في ظل استحواذهم على 50 في المئة من الجمعية فقط.
ويلفت كثير من المدافعين عن التأسيسية إلى أنه حتى إن كان اختيار الأعضاء قد حصل عبر الانتخاب المباشر لهم، نظراً إلى وجود مئات الشخصيات التي تستحق الدخول فيها، فإن الإسلاميين كان من الممكن أن يشكلوا نفس نسبة الليبراليين واليساريين بـ 35 إلى 45 في المئة، ومن ثم يستطيعون أن يعرقلوا مسيرة وضع الدستور، وفي النهاية لن يصلوا إلى دستور محدد. لذلك، يرى هؤلاء أن التوافق الذي حصل في بداية الجمعية كان جيداً جداً لبدء أعمال التأسيسية واستكمال الفراغ الدستوري الذي تعيشه البلاد.
كذلك أشار المدافعون، ومن بينهم الدكتور محمد محسوب وزير الدولة للشؤون البرلمانية، إلى أن الإسلاميين في الجمعية هم من قدموا التنازلات أثناء النقاشات التي دارت داخل الجمعية، حتى وصلت إلى التنازل عن 11 مادة من بينها المادة الـ 68 الخاصة بمساواة الرجل والمرأة، بما لا يخالف الشريعة الإسلامية. كذلك جرى التنازل في ما يتعلق بالمادة الخاصة بالزكاة والمادة الخاصة بالذات الإلهية، فيما لم يسمع عن تنازل الليبراليين واليساريين عن أية مواد.
ولفتت تسنيم جمال إمام، عضو أمانة التثقيف السياسي في حزب الحرية والعدالة في الإسكندرية، إلى أن الجمعية في البداية قسّمت الأعضاء المئة المشاركين فيها إلى 4 لجان. وكل لجنة بحسب التخصص، كان منوطاً بها باب من الأبواب، وكل لجنة كانت تستعين بالاحتياطي ولم تكن فقط بمفردها. وأضافت: كان الاحتياطي قرابة 50 فرداً، وكانت هناك لجنة خبراء تعمل خلفهم، فضلاً عن لجنة حوار بقيادة محمد البلتاجي كانت تذهب للمحافظات وتعقد جلسات استماع. كذلك وجدت لجنة مقترحات، كان هدفها أن تأخذ مقترحات الشعب من الإنترنت وتفرزها وتعطي كل لجنة كل صباح ما يخصها.
ولفتت تسنيم إلى أن أعضاء التأسيسية كان موزعاً عليهم «حافظات ذاكرة» تحتوي على 194 دستوراً من مختلف العالم، وكتاب التجربة المصرية في الدستور الذي يضمن نحو 15 دستوراً من دساتير مصر. وأكدت أن الأعضاء مروا بمرحلة تثقيف دستوري، لافتةً إلى أن المسودة كانت تُحدَّث تقريباً كل يومين، ويضاف إليها وتنقَّح، أي إن الأعضاء كانوا يعملون بضمير حتى آخر وقت، وعملوا تقريباً 6 أشهر، بمعنى أن كل مادة أخذت300 ساعة تقريباً.
ومما أشارت تسنيم إليه أيضاً، أن غالبية الانسحابات بالجمعية هي انسحابات إعلامية، لم يقدم ما يفيد بها رسمياً من أغلب المنسحبين. وأكدت أن كثيراً من المواد المعترض عليها، هي مواد جدلية يقوم القانون في أغلبها برفع الالتباس فيها، فضلاً عن أن المنسحبين كان من الممكن أن يشكلوا ضغطاً منطقياً لو ظلوا في الجمعية كما فعل غيرهم، في إشارة إلى ضغط الدعوة السلفية لتعديل مواد في بابي السلطة التشريعية والتنفيذية.
واتهمت تسنيم الإعلام بتشويه الجمعية وشنّ حرب شائعات عليها، الأمر الذي أثار لغطاً حولها في أمور لا صحة لوجودها. وقالت إن في الدستور مواد مميزة تستحق الإشادة، كالمادة الثالثة من الدستور الخاصة بشرائع غير المسلمين، والمادة الرابعة الخاصة باستقلال الأزهر، وهي المادة التي وضعها الأزهر بنفسه، لافتةً إلى «أن المادة الخاصة بأخذ رأي هيئة كبار العلماء تحمي مصر من المذاهب الفقهية الشاذة». كذلك يعترف الأزهر بالمذاهب المعتدلة، ما يُعَدّ بلورة لدور الأزهر، وارتضاء أن يكون مرجعية وسطية. وأشارت تسنيم إلى أنه قُلِّص دور الرئيس في هذا الدستور، مبينة أن المادة السادسة ترسّخ مبادئ مهمة جداً، أهمها المساواة وتوازن السلطات وسيادة القانون، وتشرح شرحاً لا يقبل اللبس لمفهوم المواطنة.
وتابعت تسنيم قائلة إن المادة 14 كفلت لأول مرة حداً أدنى للمعاش، فضلاً عن مادة توجب حق الإضراب السلمي للعمال وتمكنهم من المشاركة في الإدارة. كذلك أُلزمت الدولة تنمية الريف والبدو وتوسيع الرقعة الزراعية، إضافة إلى كفالة مصابي الثورة، لا مجرد رعايتهم، وهي الكلمة التي جرى تغييرها في جلسة التصويت.
أما المادة 31، فعدّتها تسنيم مميزة عن باقي دساتير العالم، لأنها تكفل الكرامة لكل إنسان على أرض مصر، لا للمصريين فقط، مشددةً على أن المادة 46 تحدثت عن حرية الإبداع بلا قيد أو شرط. ولم تضع استثناءات للإبداع لأنه لا أحد يستطيع أن يحكم على شيء لم يولد بعد، ومن ثم لم يحدث تقيد للإبداع.
ولم يخف المشاركون في إعداد المسودة النهائية للدستور، فرحتهم بما أنجزوه، بما في ذلك عصام العريان، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة وأحد أعضاء التأسيسية. الأخير كتب على حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» قائلاً: «الحمد لله، والشكر له وحده. انتهت الجمعية التأسيسية من التصويت على مشروع الدستور بعد فجر اليوم الجمعة؛ خير يوم طلعت فيه الشمس بعد ماراثون طويل سهرنا فيه جميعاً، وتابعنا الشعب العربي كله». وأضاف: «إن الجميع عندما يقرأون مشروع الدستور سيجدون أنه فخر لكل مصري، الكمال لله وحده، لكننا أنجزنا دستوراً يليق بمصر الثورة، ويحقق آمال الشهداء والمصابين».
في موازاة هذه البهجة، كان هناك آخرون يرون أنه جرى سلق مواد الدستور، ولا سيما مع إصرار جماعة الإخوان والأحزاب الإسلامية (النور السلفي، والوسط الإسلامي)، الانتهاء من مواد الدستور ليلاً وعدم الاستفادة من المهلة التي منحها لهم مرسي في الإعلان الدستوري الأخير بمدّ العمل بالجمعية لشهرين لإحداث مزيد من التوافق بين القوى السياسية.
وإن كان لا يوجد خلاف على قانونية الإجراءات المتخذة، فإنها تبقى «غير أخلاقية» حسب تعبير خالد أبو بكر، أستاذ القانون الدولي. وتساءل أبو بكر: «كيف يجري تصعيد أعضاء لم يحضروا جلسات المناقشة لجلسة التصويت فقط».
وإن كان الخلاف بشأن أعضاء التأسيسية قد انتهى بالتصويت على مسودة الدستور، فإن خلافاً آخر بدأ عنوانه مواد الدستور نفسه.
ومن هذه المواد تلك المتعلقة بالصحافيين، حيث أُلغيت المادة التي كانت تحظر العقوبات السالبة للحريات من الدستور، بما يفتح الباب أمام البرلمان القادم لتشريع قوانين تجيز الحبس في قضايا النشر، وهو ما تعترض عليه الجماعة الصحافية، وتطالب بإلغائه منذ فترة. وأيضاً يتضمن الدستور الجديد مادة تمنح القضاء الحق في إغلاق الصحف وتوقيفها ومصادرتها. وفي الدستور الجديد أيضاً أعطي الحق للقضاء في حل النقابات المهنية. ولم يقتصر الأمر على حل مجالس إدارتها فقط؛ فالدستور «المسلوق» كما يصفه المعارضون، أجاز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، رغم مطالبات الثوار بوقف وإلغاء تلك المحاكمات التي حاكمت في أثناء الثورة وحدها 12 ألف مواطن، من بينهم ثوار ومعارضون سياسيون. وأصرت الجمعية التأسيسية على إبقاء نص يقول: «لا يجوز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري إلا في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة»، وهو ما دفع مجموعة «لا للمحاكمات العسكرية»، إلى إصدار بيان قالت فيه: «يبدو أن أعضاء الجمعية التأسيسية تصوروا أن الدور المنوط بهم هو الحفاظ على كل أذرع القمع لدولة مبارك وحكم العسكر».
وفي ما يتعلق بالشق الديني، أقر أعضاء الهيئة التأسيسية بالإجماع المادة 219، التي تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنّة والجماعة»، وهي المادة التي كانت ضمن أسباب انسحاب الكنيسة والتيار المدني من الجمعية التأسيسية. ويرى معارضو هذه المادة أنها تفتح الباب أمام جماعات وهابية تفرض أفكارها وآراءها على المجتمع وفي إصدار القوانين. ولم يعترض على هذه المادة أثناء التصويت سوى عضوين اثنين فقط، قبل إمرارها.
أما القضاة، فانتقد عدد منهم ما أُقرّ بشأن المحكمة الدستورية، أي خفض عدد قضاتها من 19 قاضياً إلى 11 فقط، وهو ما فسّره البعض بأن المقصود منه استهداف بعض القضاة الذين يراهم التيار الإسلامي معارضين له داخل المحكمة. وأبرز هؤلاء القضاة تهاني الجبالي، نائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا، وحسن بدراوي، نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا ومساعد وزير العدل لشؤون مجلسي الشعب والشورى، وحاتم بجاتو، نائب رئيس المحكمة الدستورية والأمين العام ورئيس هيئة المفوضين، الذين سيُستبعَدون بعد إقرار هذه المادة. كذلك أعطى الدستور الجديد الحق لرئيس الجمهورية وحده بتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا، بعدما كان المجلس العسكري قد أصدر قانوناً نصّ على أن يحصل ذلك بالعودة إلى أعضاء الجمعية العامة للمحكمة. وجاءت المادة الجديدة لتقول إن قرار تعيين أعضاء التأسيسية يصدر عن رئيس الجمهورية.
ومن المواد التي يراها المعارضون للدستور كارثية، المادة التي أقرت ببقاء رئيس الجمهورية الحالي في منصبه بعد الاستفتاء على الدستور. وتنصّ على أن «تنتهي مدة رئيس الجمهورية الحالي بانقضاء أربع سنوات من تاريخ تسلمه مهمات منصبه، ولا يجوز إعادة انتخابه إلا لمرة أخرى». وكان المعارضون يطالبون بأن تعاد انتخابات الرئاسة؛ لأن الرئيس الحالي انتُخب وفقاً لإعلان دستوري سيُلغى، ولم ينتخب على أساس الدستور الجديد.
وينتقد المعارضون للدستور أيضاً مادة العزل السياسي لقيادات الحزب الوطني المنحل، التي أقرتها الجمعية بالإجماع، ونصت على أنه «تُمنع قيادات الحزب الوطني المنحل من ممارسة العمل السياسي والترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة عشر سنوات من تاريخ العمل بالدستور. ويقصد بالقيادات كل من كان في 25 يناير سنة 2011 عضواً في الأمانة العامة للحزب أو في لجنة السياسات أو في المكتب السياسي أو كان عضواً في مجلس الشعب أو الشورى في الفصلين التشريعيين السابقين على ثورة الخامس والعشرين من يناير». ويرى المعارضون أن المادة لا حاجة لها بالدستور، لأنه دستور لكل المصريين في النهاية بمن فيهم «فلول الحزب الوطني». ويرون أن إضافة تلك المادة فيها نوع من الانتقام لا حاجة له.
واختصر حافظ أبو سعدة، رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، مسوَّدة الدستور التي أُقرَّت أمس بالقول إنها «أسوأ دستور كتب في تاريخ مصر الحديثة، ويأخذ مصر إلى عصور الظلام». وأوضح أن المادة 70 تجيز تشغيل الأطفال حين يبلغون سن التعليم الإلزامي (6 سنوات) في أعمال مناسبة، متسائلاً: «في أي شرع أو قانون هذا؟». وتنص هذه المادة على أنه «يحظر تشغيل الطفل، قبل تجاوزه سن الإلزام التعليمي، في أعمال لا تناسب عمره، أو تمنع استمراره فى التعليم».



العفو الدولية: الدستور يقيّد الحريات

رأت منظمة العفو الدولية أن الدستور المصري الجديد يقصّر عن حماية حقوق الإنسان ويتجاهل على وجه الخصوص حقوق المرأة، ويقيّد حرية التعبير باسم حماية الدين ويسمح للمحاكم العسكرية بمحاكمة المدنيين.
وأعربت المنظمة عن قلقها من «أن الجمعية التأسيسية للدستور، التي قاطعتها على نطاق واسع الأحزاب السياسية المعارضة والكنائس المسيحية، ليست ممثلاً حقيقياً للمجتمع المصري ويهيمن عليها حزب الحرية والعدالة وحزب النور، وكانت تضم في البداية سبع نساء إلا أن عددهن تضاءل منذ ذلك الحين».
من جهته، قال المتحدث باسم مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، نافي بيلاي، إن الأخيرة حذرت الرئيس المصري محمد مرسي في رسالة من أن الإعلان الدستوري سيضعه فوق القانون ويفتح الباب أمام انتهاكات لحقوق الإنسان. ومما قالته بيلاي في رسالتها إن مصر تحتاج إلى ضمانات لمنعها من نقض المبادئ الملزمة في المعاهدات الأساسية لحقوق الإنسان.
(رويترز، أ ف ب)