الحفل الموسيقي الذي أحياه الفنان الكندي انطوان ستراوي الأسبوع الماضي هنا في مدينة غزة، كان ساحراً ومؤثراً، ولا سيما معزوفات البيانو التي لحُنت خصيصاً لأجل القضية الفلسطينية، حسب ما فهمنا. ليس هذا فقط، لقد كانت هناك حالة انسجام عاشها الشباب الغزي المتعطش إلى الموسيقى في حفل متواضع نظمته حملة المقاطعة الوطنية لإسرائيل.
اللافت في هذا الحفل أنّه سمح لفرقة جفرا الفلسطينية بالمشاركة، وهذه فرصة لا تُعوّض للموسيقيين الشباب غير المسموح لهم بإقامة حفلات موسيقية عامة، كما قال لـ «الأخبار» المغني محمد عكيلة، أحد أفراد الفرقة التي شاركت بالنشيد الوطني الافتتاحي، ومن ثم بتقديم الأغنيات التراثية الفلسطينية في الفقرة الختامية للحفل.
ولسنا هنا في سياق التطرّق إلى مشكلات الموسيقيين الشباب في غزة، مع إنها مهمة، لكنها وقفة صغيرة تأملية بالنظر الى ما تحمله في طيّاتها من دلالات على الغلو في تبجيل الأجنبي على حساب المواطن الغزي! تبجيل مردّه إلى الانطباع العام لدى الفلسطينيين والعرب على نحو عام بأنّ صاحب الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين هو مفتاح يُشرّع أبواب الجنة لصاحب الحظ السعيد. وليس سراً على أحد أنّ تدفق السفن والقوافل المتضامنة ضد الحصار الإسرائيلي على القطاع كان سبباً في كثافة الحضور الأجنبي على نحو لافت، إلى جانب تزايد عدد المؤسسات الدولية التي تُغذّي مؤسسات المجتمع الفلسطيني بمشاريع كلفتها ميزانيات خيالية جداً، ولكثرة عددها ودورها أُطلق على شارع عريض وسط غزة اسم «شارع المؤسسات الدولية».
الطريف هنا أنّ ذاك الشارع الرملي رغم ملايين الدولارات التي تنهمر عليه من كل صوب وجانب، لا يجد من يُمهده ليصبح سالكا لمرور السيارات الدولية الفارهة في نهايته، كلّ هذا أوجب ضرورة تبجيل الرجل الغربي الوسيم هو ومشاريعه المليونية الدولارات، بالابتسامةيُقابله الشبّان الباحثون عن فرصة عمل أو فرصة هجرة إلى الدول الإسكندنافية، بالضحكات يُرد غضبه، بالكرم تُقابله البيوت والمؤسسات الأهلية والجامعات والوزارات. وقبل هذا وذاك أصبح ممول الأفكار الأكثر صدقية على الإطلاق، لا قبله ولا بعده! لهذا يعبّر أحد الشبان الغزيين عن الوضع ومن باب المزاح بقوله، إن مجموع الغزيين القاطنين داخل القطاع أصبح اسمهم «الجالية الفلسطينية في غزة»، غامزاً من قناة قلة أهميتهم بالنسبة إلى هؤلاء الاجانب، الذين تتفاقم أهميتهم بتفوق مواردهم وحاجة الغزيين، الذين أصبحوا «أقلية» لهؤلاء الأجانب.
وإن كنا نطرح اليوم هذا الموضوع القديم الحديث، فلن ننسى دور المشاريع الدولية في التنمية المجتمعية، وخلق فرص عمل للشباب العاطلين من العمل، إلى جانب الدور الكبير الذي أسهمت فيه السفن والقوافل الدولية لكسر الحصار في فضح ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينييين، وذلك عبر توثيقها بالصور والأفلام الوثائقية والمدونات الصحافية. في كل الأحوال، أقل ما يجب فعله ربما التفكير ملياً قبل تخصيص الصفوف الأولى للمتضامنين الأجانب دون غيرهم، في أي حفل يُقام، مثلما حدث في حفل ستراوس الموسيقي. فهؤلاء وإن وجب تقدير دور بعضهم، ليسوا اهل الدار، ولا الاهم، ولا فضل لعربي على اعجمي إلا بكفاءته وحبه لأرضه، وهو ما يستحيل ان يرجّح كفة الاجانب مهما كبر دورهم.