دمشق | لا يملك المتابع للأداء الحكومي السوري بدّاً من التساؤل: هل نحن أمام حالةٍ فريدةٍ وغير مسبوقةٍ من التخبّط؟ أم أمام آليات مُمنهجة تنشد الوصول إلى أهداف يصعب على السوريين إدراكُها؟ أيّاً يكن، فالثابت أنّ العام الأخير حمل إلى المواطن السوري رزمة مفاجآت حكوميّة، أتيحت له معرفة جزء منها فحسب، أمّا ما خفي فهو أعظم. وإذا كان ربط الانكفاء الاقتصادي، والتضخم، وتردي الأوضاع المعيشيّة بالأزمة التي تعيشها البلاد يتيح للمتفائلين أملاً بتجاوز هذه المصائب إذا قُدّر للحرب أن تضع أوزارها، فإنّ بعض الملفّات المسكوت عنها تضع البلاد أمام مخاطر خسارات لا يبدو تعويضُها أمراً مُتاحاً حتى ولو انتهت الحرب.
الحكومة تترك السدود وحيدة!

يُعتبر ملف «المؤسسة العامّة لسد الفرات» واحداً من أخطر الملفات التي تستوجب إيجاد حلول فوريّة لمشكلاتها، للحيلولة دون خسارة البلاد أكبر سدودها على الإطلاق، وهو سد الفرات، علاوةً على سدّي البعث وتشرين. «الأخبار» حصلت عبر مصادر عدّة على معلومات عن حال المؤسسة، واطّلعت على محاضر اجتماعات تكشف حجم الإهمال الحكومي لجزء مهم من البنى التحتيّة التي يملكها الشعب السوري. تُعتبر «المؤسسة العامة لسد الفرات» مؤسسة عامة ذات طابع اقتصادي (مُنتجة) تتبع وزارة الموارد المائيّة، وتقع على عاتقها مهمة استثمار مياه نهري الفرات والخابور استثماراً كاملاً. دخلت السدود التابعة للمؤسسة دائرة الخطر منذ أواخر عام 2012، مع خروج سدّي تشرين (منبج، ريف حلب الشرقي) والبعث (المنصورة، ريف الرقة الغربي) عن سيطرة الدولة السورية، قبل أن يخرج سد الفرات (الثورة، ريف الرقة الجنوبي الغربي) بدوره في شباط 2013. كان 35 خبيراً أجنبيّاً (روسيّاً، وصينيّاً) قد غادروا البلاد في أواخر عام 2011، لتقع مهمة تشغيل السدود على الكوادر السورية التابعة للمؤسسة (2200 عاملاً، غادر منهم تباعاً نحو 400 إلى محافظات «آمنة» واستمرّ الآخرون في عملهم). أفلحت وساطاتٌ محليّة في الوصول إلى تفاهمٍ يقضي باستمرار عمّال السدود والمحطّات في إدارتها من دون أي تدخّل من تنظيم «الدولة الإسلاميّة» المُسيطر، الأمر الذي قبل به الأخير نظراً إلى حاجته لاستمرار عمل السدود واستمرار توليد الكهرباء، وأعمال الري، وما إلى ذلك. ورغم كل الظروف المحيطة، تمكنت المؤسسة في عام 2013 من إنجاز خطتها الإنتاجيّة «بنسبة تنفيذ بلغت 118%». في عام 2014 واجهت المؤسسة صعوباتٍ عدّة نتيجة تعذر القيام بأعمال الصيانة اللازمة (لأسباب عدة على رأسها توافر السيولة المالية والقطع)، ما تزامن مع محاولات تنظيم «داعش» زيادة التدخل في عمل السدود عبر تشكيل «إدارات» تابعة له بذريعة «السعي إلى إيجاد حلول للمشكلات العالقة»، وهو ما نبّهت إدارة المؤسسة من مخاطره عبر مخاطبات رسميّة مع رئاسة مجلس الوزراء ووزارتي الكهرباء والموارد المائيّة.


2015... «عيشها غير»!

بات من المعلوم أن العام الجاري هو عام الكوارث الحكوميّة بامتياز، والتزاماً بهذه الحقيقة، ردّت الحكومة على تنبيهات المؤسسة وقامت بشكر عمّالها على طريقتها، حيث امتنعت عن تمويل المؤسسة كليّاً، ما أدّى إلى توقيف رواتب وتعويضات العمّال منذ ما يزيد على سبعة أشهر.

تضم محطة سد الفرات ثماني مجموعات،
ثلاث منها تعمل
المفارقة أنّ وزارة الموارد المائيّة أخذت على عاتقها تسديد رواتب موظفي «مؤسسة الفرات» الذين غادروا مواقع عملهم إلى محافظات أخرى (نحو 600 عامل)، بينما أعلنت عدم استعدادها لدفع رواتب المستمرّين في أعمالهم! ليس هذا فحسب، بل صدرت توجيهاتٍ حكوميّة بسحب الكوادر من المحطّات الكهرومائيّة. تُجمع المصادر على أن تشغيل المحطّات يحتاج إلى خبرة راكَمها مهندسو وعمّال «المؤسّسة» عبر سنوات عملهم الطويلة تحت إشراف الخبراء الروس والصينيين، ما يعني أن سحب هؤلاء سيترك المحطّات والمرافقَ تحت رحمة تنظيم «داعش».


«المفتاح» عند وزارة الكهرباء

رغم أن وزارة الموارد المائيّة ما زالت تدفع رواتب نحو سبعة آلاف عامل في مشاريع الري في الجزيرة السورية (رغم توقفهم عن العمل بسبب توقف المشاريع) لكنّها رفضت معاملة موظفي السدود بالمثل (رغم مواصلتهم العمل). وكان فحوى ردودها المتكرّرة أنّ «الموارد المالية للمؤسسة يجب أن تكون من وزارة الكهرباء» بحكم العلاقة الاستثمارية بين الطرفين. يقدّر إجمالي الرواتب الشهري بنحو 40 مليون ليرة سوريّة، وهو مبلغٌ زهيدٌ إذا ما قيسَ بالديون المستحقّة لـ«مؤسسة الفرات» في ذمّة وزارة الكهرباء. تقوم العلاقة بين الجهتين على بيع المؤسسة التيار الكهربائي المولّد إلى الوزارة (وتحديداً إلى مؤسسة نقل الكهرباء)، وبسعر 75 قرشاً سورياً (ثلاثة أرباع الليرة) للكيلو واط الساعي، لتقوم الوزارة ببيع الكهرباء إلى المُستهلك، وجباية أثمانها. وحتى وقت قريب، بلغ الدين المتراكم لدى وزارة الكهرباء أربعة مليارات ليرة سوريّة، توقفت بشكل تام عن تسديدها ردّاً على منع «داعش» توريد كمية 12 ميغا من الكهرباء يوميّاً إلى حماه! وجّهت إدارة المؤسسة مناشدات عدّة إلى وزارة الموارد المائية ووزارة الكهرباء، ورئاسة مجلس الوزراء بضرورة حثّ وزارة الكهرباء على تسديد جزء من التزاماتها لدفع رواتب الوظفين والعمّال، بلا جدوى.


الوضع الفني راهناً

تضم محطة سد الفرات ثماني مجموعات توليد كهربائي، ما زالت ثلاثة منها مستمرّة في العمل، بينما خرجت ثلاثة من الخدمة نتيجة أعطال أصابتها تباعاً (أعوام 2011، 2013، 2014). أما محطة سد البعث فتحوي ثلاث مجموعات توليد ما زالت اثنتان منها مستمرتين في العمل، بينما خرجت الثالثة من الخدمة عام 2013. وتحوي محطة سد تشرين ستّ عنفات، خرجت إحداها من الخدمة أواخر العام الماضي، وتستمرّ خمس منها في العمل. ويرتبط خروج المحطات من الخدمة بصعوبة القيام بأعمال الصيانة اللازمة نتيجة تضافر عوامل عدة، على رأسها: عدم توافر السيولة المالية، وإحجام الشركات المتعاقدة (صفانكو الإيرانيّة، غوستروي الروسية، مكسيموز النيوزيلنديّة – فرع روسيا الاتحاديّة، سشوان الصينيّة) عن تنفيذ عقود الصيانة بسبب الظروف الأمنية.

شرّ البلية

لا تقف تفاصيل الملف عند امتناع الوزارتين عن التعاون مع المؤسسة لإيجاد حل ناجع لمشكلاتها، بل تتعداه إلى تفاصيل أقل ما توصفُ به هو «شر البلية». وعلى سبيل المثال، فقد اتّهم أحد المسؤولين في الوزارتين عمّال المؤسسة بـ«التعامل مع الدواعش». المسؤول المذكور اقترح حلّاً عبقريّاً للمشكلة برمّتها، حيث خاطب من المديرين العاملين في المؤسسة بالقول «إنتو 2000 واحد، ما بتعرفو تقومو على الدواعش قومة وحدة وترموهم بالبحيرة وتخلصونا منهم؟». مسؤول آخر ردّ على التحذير من تبعات سحب العمّال من السدود والمحطات وما قد ينجم عنه من توقفها عن العمل، ردّ بالقول: «اطّمنوا، داعش ما بتخليها تخرب لأنها عم تستفاد منها».




ماذا يعني سحب الكوادر؟

تقف المؤسسة اليوم أمام خيارات صعبة. استجابتها للتوجيهات القاضية بسحب الكوادر ستعرّض السدود لمخاطر العبث الذي لا تقتصر تبعاته على توقف السدود عن العمل فحسب، بل قد يقود إلى انعدام السيطرة عليها وانغمارها والمناطق المحيطة بها بسيول نهريّة. في الوقت نفسه تفتقر المؤسسة إلى السيولة اللازمة للقيام بأعمال الصيانة، ودفع الرواتب المتوقفة. معظم العمال والموظفين أعلنوا أخيراً عزمهم على التوقف عن العمل ما لم تُسدَّد مستحقاتهم الماليّة. ويجدر التنويه هنا إلى أن مغادرة هؤلاء مناطقهم بنحو جماعي ليست أمراً يسيراً. ثمة مخاوف من قيام «داعش» بمنعهم بالقوّة بسبب حاجته إلى خبراتهم. في الوقت نفسه يتخوّف هؤلاء من قبض مبالغ مالية من التنظيم المتطرف، لأن ذلك سيعني عدّ الدولة السورية لهم جزءاً من «داعش». وتجدر الإشارة إلى أن السدود الثلاثة (علاوةً على توليد الكهرباء) تحتجز خلفها ما يقارب ثلاثة أرباع المياه العذبة في سوريا، وتغذي مشاريع الري والشرب في شمال البلاد وشرقها، ومنها: تغذية «مشاريع ري البليخ»، وتغذية محافظة حلب بمياه الشرب عبر محطتي البابيري والخفسة. علاوة على تغذية محافظتي الرقة ودير الزور بمياه الشرب، ومياه الري اللازمة لمحاصيل القطن والحبوب في الجزيرة السورية.