طرابلس | نواكشوط | بعد طول انتظار، سلمت موريتانيا مدير الاستخبارات الليبي السابق، عبد الله السنوسي، للسلطات الليبية، وسط ترقب لمصير «الصندوق الأسود» لأسرار الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، نظراً إلى اطلاعه على أسرار أبرز الملفات الداخلية والخارجية للعهد السابق. إعلان موريتانيا المقتضب عن تسليم السنوسي وعدم إيراد أي إيضاحات بشأن تسليم الرجل المطلوب لأكثر من جهة عربية ودولية، جاء ليناقض ما سبق أن أكده الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، أكثر من مرة أن بلاده لن تسلّم السنوسي، لأنه يخضع للقضاء الموريتاني ولم يحاكم بعد. كذلك سبق لولد عبد العزيز أن أكد أنه عندما ينتهي القضاء الموريتاني من محاكمة السنوسي سينظر في قرار تسليمه، مشدداً على أن هذه الخطوة لن تحصل من دون ضمانات.

وأبدى مراقبون في نواكشوط مخاوفهم من أن تكون الحكومة الموريتانية قد عقدت «صفقة بيع» للسنوسي، وخصوصاً أن طبيعة الوفد الليبي الذي تسلم السنوسي تطرح أكثر من سؤال، إذ كان في عداد الوفد وزير المالية حسن مختار حميده بن زقلان، وهو ما عزز من صحة التسريبات التي كانت قد تحدثت عن طلب موريتانيا مليار دولار لتسليم السنوسي لليبيا.
وكشف مصدر موريتاني مطلع أن وفداً رسمياً ليبياً رفيع المستوى تسلم السنوسي خلال حفل رسمي صوره التلفزيون الحكومي. كذلك، أفادت مصادر مطلعة أن طائرة خاصة ليبية نقلت السنوسي والوفد الذي تسلمه من العاصمة نواكشوط إلى العاصمة الليبية طرابلس، فيما تحدث زقلان أن السنوسي، بصحّة ممتازة، مشيراً إلى أنه رفض في البداية الصعود إلى الطائرة في موريتانيا وجُرّ إليها جرّاً.
وتحدثت مصادر عدلية في نواكشوط عن احترام «كل الإجراءات القانونية المتعلقة بتسليمه وكل الضمانات المطلوبة أعطيت من الحكومة الليبية». وقال مصدر أمني إن الجانب الموريتاني أوكل المهمة إلى وزير العدل عابدين ولد الخير، ووزير الاقتصاد والتنمية سيدي ولد التاه، بعد مفاوضات بين الطرفين الموريتاني والليبي دامت طوال الأشهر الخمسة الماضية، وتخللتها زيارات رسمية رفيعة المستوى لعد من المسؤولين الليبيين من بينهم رئيس الحكومة الليبية السابق عبد الرحيم الكيب، وقبله نائبه ﻣﺻطﻔﯽ أبو شاغور. وشهدت نواكشوط خلال الفترة السابقة، سباقاً شرساً للفوز بالسنوسي المعروف أنه «الصندوق الأسود» للقذافي، نظراً إلى الكمّ الهائل من الأسرار التي يحوزها السنوسي بشأن فترة حكم القذافي إلى جانب تورطه في عدد من الجرائم، أهمها مجزرة سجن بوسليم التي ارتكبت بحق أكثر من 1200 سجين سياسي في عام 1996. وإلى جانب السلطات الليبية، سعت كل من فرنسا والمحكمة الجنائية الدولية لتسلم السنوسي ومحاكمته. كذلك أبدى لبنان، الذي أوفد قبل أيام وزير خارجيته عدنان منصور، اهتماماً بالتواصل مع السنوسي، في محاولة لكشف مصير السيد موسى الصدر. وعمل حكام طرابلس الجدد منذ إعلان موريتانيا اعتقال عبد الله السنوسي، في آذار الماضي بعد أن حاول دخول الأراضي الموريتانية بجواز سفر مالي مزور قادماً من المغرب، على محاولة تليين موقف نواكشوط المطالب بضمانات لمحاكمة عادلة للسنوسي وبعدم تعرضه للتعذيب أو سوء المعاملة.
ويبدو السنوسي اليوم في موقف لا يحسد عليه، وهو الذي سافر إلى موريتانيا مدفوعاً بالرغبة في الحصول على الأمان في البلاد، التي سبق أن أُثير فيها جدل كبير حيال منح أركان من نظام القذافي جوازات سفر دبلوماسية موريتانية. لكن السنوسي قد لا يكون الأخير الذي سيجد نفسه في قبضة السلطات الليبية، إذ إن المسؤولين الليبيين يبدون اهتماماً باسترداد جميع المسؤولين السابقين في عهد القذافي من الذين نجحوا في مغادرة البلاد على أمل أن تمهد هذه الخطوات لإطلاق عملية المصالحة الوطنية في البلاد. وكان رئيس الوزراء الليبي، عبد الرحيم الكيب، قد قام في الفترة الماضية بجولة وصفها البعض بأنها مكوكية، في محاولة منه للضغط على دول الجوار لتسليم بعض المطلوبين. ولم تكن الإغراءات المالية بعيدة عن جولاته، وخصوصاً أن نفوذ رجال القذافي في الخارج ورؤوس أموالهم بدت أنها أقوى من القنوات الدبلوماسية.
فرغم علم ليبيا بأماكن وجود رجال القذافي في الخارج، ونشر عدة وسائل إعلام قوائم بأسماء بعض شخصيات العهد السابق الموجودة في مصر، إلا أن السلطات الليبية فشلت في تسلم أي منهم. ولأن الكيب يعلم أن من أولويات حكومته، التي أصبحت معدودة الساعات، استرجاع رجال القذافي والاتفاق على المصالحة الوطنية، تحدث خلال جلسة استجوابه في البرلمان عن وعود مصرية بتسليم بعض رجال القذافي. وأشار أيضاً إلى أن المغرب وعد أيضاً بعدم إيوائهم، مغفلاً في الوقت نفسه التطرق إلى الجزائر والنيجر.
ويأمل الكيب، الذي هنأ أمس الليبيين على استعادة السنوسي وجدد دعوته دول الجوار إلى الاقتداء بتونس وموريتانيا، أن يكرر سيناريو استرجاع رئيس الوزراء السابق البغدادي المحمودي من تونس الذي جرى مقابل صفقة مالية تحدثت عنها وسائل إعلام مختلفة، وقدر المبلغ الذي حصلت عليه تونس بـ 500 ألف دولار. وجرى تداول أنباء في الآونة الأخيرة عن إغراءات قدمها الكيب لمصر والمغرب لتسليم المسؤولين السابقين الموجودين لدى البلدين. ووفقاً للمعلومات، فإن في مقدمة هذه الإغراءات منح المصريين والمغاربة الأولوية في فرص العمل داخل ليبيا، ما من شأنه توفير أكثر من مليوني وظيفة لمواطني الدولتين.
عملية استرداد أنصار النظام السابق من شأنها فتح الباب أمام المصالحة الوطنية الليبية. وفيما رفض وزير الأوقاف الليبي حمزة أبو فارس، الحديث في موضوع المصالحة الوطنية ورجال القذافي، أكد الإعلامي محمود شمام في حديثه مع «الأخبار»، أن لا مصالحة قبل العدالة. وأوضح أن الحديث عن المصالحة أمر سابق لأوانه، وأن أي مبادرات شخصية بهذا الخصوص سنقف ضدها. وشدد على أنه «من قام بالتحريض على القتل وسفك الدماء فلا مناص له من المحاكمة، في حين أن من نهب أموال الشعب فليرجعها ويرجع». وأكد شمام أن الشعب الليبي سيلاحق المسؤولين في عهد القذافي جنائياً عبر قنوات قضائية دولية حتى تُسترجع الحقوق. وشكك شمام في صحة التقارير التي تشير إلى أن أعداد الفارين خارج ليبيا تقدّر بمليون شخص، مؤكداً أنه لا يتجاوز الـ 200 ألف. واستهزأ بمحاولة البعض الضغط بورقة المصالحة الأمنية مقابل الأمان، مشيراً إلى أنه لا رابط بينهما. من جهتها، أكدت أستاذة القانون في جامعة بنغازي، هناء القلال، أن «ثورة 17 فبراير لن تنجح بالوصول إلى المصالحة الوطنية». وشددت على أنه «يجب أن تكون ليبيا لكل الليبيين وأن نضع القوانين التي تمنع التمييز». ونبّهت إلى أن «الكثيرين فهموا أهمية المصالحة وحماية الحقوق بأن نقوم بالمصالحة من دون تحقيق العدالة ودون معاقبة الجناة»، لافتةً إلى أن «هؤلاء يجب أن يعلموا أنه لن تكون هناك مصالحة وطنية إلا إذا سبقتها عدالة حقيقية لمن اضطهدوا وانتهاك حقوقهم وقهرهم وسرقتهم وقتلهم لمدة 42 سنة». وأضافت: «لا يجوز حماية حقوق الجاني على حساب حقوق الضحية. أما ما يحدث الآن، فهو تقديم الشكر والمكافآت لمن كان جزءاً من منظومة الشر والطغيان في ليبيا، لمن كان ضمن آلة الفساد ونهب خيرات البلاد». وخلصت إلى القول: «لا لن تتحقق المصالحة الوطنية بمنطق كهذا، فلا مصالحة من دون عدالة حقيقية وقانونية، وبالتالي فإن من يسعى للمصالحة من دون عدالة انتقالية هو من يقود الوطن إلى الفوضى».
أما الناشط الحقوقي عبد الباسط بومزريق، فرأى أن لعبة الموت التي أدارها القذافي ونظامه باقتدار لم تنته بعد، لافتاً إلى أنه حتى تنتهي هذه اللعبة لا بد أن يعترف الفريق الخاسر بالهزيمة. وتحدث عن تعمد البعض من داخل الحكومة ومن داخل المجلس الانتقالي خلط الأوراق بعد تحرير طرابلس، من خلال ترديد عبارة «لا يوجد خاسر ومنتصر في ليبيا، والكل منتصر بتحرير طرابلس والتخلص من نظام القذافي». ونبه إلى أن «هذا الخلط سمح للفريق الخاسر بأن يتسلل داخل الفريق المنتصر، من دون أن يعترف بالهزيمة ليواصل معركته. لذلك، حتى يمكننا الحديث عن المصالحة، لا بد من إنهاء المعركة (اللعبة) أولاً باعتراف المنهزم بهزيمته». وشدد على أن «هذا الاعتراف هو الوحيد الذي يضمن المصالحة ويجعل من الطرف المنتصر مطمئناً فرحاً بالنصر الذي حققه»، لافتاً إلى أنه «بعد ذلك سيفكر المنتصر في المصالحة؛ لأنه سيتفرغ عندها إلى معركة بناء الوطن الذي يشترك فيه الجميع. ولعل ما حدث ويحدث هذه الأيام يؤكد للجميع أن «لعبة الموت» لم تنته بعد».



أيلول شهر المحاكمات


أفاد مكتب المدعي العام الليبي، بأن وزير الخارجية الليبي السابق عبد العاطي العبيدي، ورئيس مؤتمر الشعب العام السابق (البرلمان) محمد بلقاسم الزويفي، في عهد العقيد الراحل معمر القذافي سيمثلان في العاشر من الشهر الحالي أمام القضاء بتهمة ارتكاب جرائم مالية سبقت الثورة.
وأوضح مساعد المدعي العام طه بعارة، أن الرجلين متهمان بارتكاب «جرائم مالية»، لكنهما لا يزالان يخضعان للاستجواب بشأن تورطهما في قمع الثورة الليبية. كذلك أعلن بعارة أن محاكمة نجل القذافي، سيف الإسلام (الصورة)، ستجري الشهر الحالي أيضاً، لكن لم يتحدد أي موعد لها بعد. وأوضح أن المحاكمة بانتظار تصديق المدعي العام على الاتهامات ضد سيف الإسلام، لافتاً إلى أن هذا الأمر سيحصل خلال اليومين المقبلين.
(أ ف ب)