يأتيك اتصال الساعة الثالثة فجراً. الرقم الظاهر على شاشة الهاتف «طويييييل»، إذاً الاتصال خارجي. لكن من هو هذا «المذوق» الذي يتصل في هذا الوقت؟ تجيب. تسمع صوت أخيك على الطرف الآخر. الآن فهمت اللعبة. فهو في قارة أخرى حالياً والفارق الزمني بينك وبينه يقارب سبع ساعات، وبالطبع لم يأخذ شقيقي هذا الفارق في الاعتبار.
يتصل رامي (اسم شقيقي) للاطمئنان على العائلة بعد وصول خبر وفاة جدتنا إليه. خلال الحديث معه تسمع «نق» ابنته الصغيرة ميرا. تطلب منه أن يقرّب الهاتف من فمها أكثر لتسمعها بشكل أوضح. أحدثها بالرغم من أني أعرف أنها لن تفهم أي كلمة، فهي لا تزال أولاً صغيرة جداً، وثانياً كنت أحدثها باللغة العربية بينما والدتها كندية، وأبوها بالطبع سيتكلم الانكليزية ما داموا جميعاً يعيشون حالياً هناك، أي إن كل ما تسمعه من كلمات كل الوقت هو مفردات إنكليزية. لذلك، ولو فرضنا أنها سمعتني، فهي لن تفهم أي كلمة مما
قلته.
بعد السلام والاطمئنان على العائلة وكيف سارت ترتيبات تشييع جدتي، سألته عمّا يخطط له: فهل ينوي العودة الى دبي أم الاستقرار في كندا؟ يجيب رامي، وهو على فكرة أخي الأصغر، بطريقة تثير الاستغراب. فهذه المرة الاولى التي أشعر من خلال حديثه أنني أكلم رجلاً لا طفلاً. فهو، والأهم، «مرتاح على مستقبل بنتي» كما قال. يذكر الأسباب الموجبة يقول:«لن أحمل أولاً همّ أن تتبهدل مثلما كبرنا نحن في لبنان لأننا فلسطينيون. الطبابة هنا ببلاش، وتعليمها أيضاً ببلاش». ليس هذا فقط، «كما أن الدولة تصرف لها ولوالدتها معاشاً شهرياً لمدة عام اعتراف بحق الأم في رعاية الطفلة حتى يصبح بمقدورها أن تذهب الى حضانة». يصمت قليلاً ثم يقول «وفي حال صار في حرب وهي بلبنان، بتجي السفارة بتاخدها من البيت دغري». يضيف: «يعني ما بتتبهدل متلنا».
بالطبع الجنسية التي تحملها الفتاة وتملكها الوالدة ستنتقل بعد سنوات الى شقيقي ليصبح هو الآخر كندياً. يخبرك عن الامتيازات التي قد يحصل عليها في حال نيله جواز السفر الكندي. أقله، كما يقول، «لن يتم توقيفي في المطارات للتدقيق في هويتي، لأن جواز السفر الخاص بالفلسطينيين مكتوب بخط اليد». يضيف «متخيّل بعد في باسبورات مكتوبين بخط الإيد؟ لما كنت في كينيا تمسخروا على جواز سفري، حتى جواز سفر بلد فقير متل كينييا إلكتروني... ».
بعد الاتصال الطويل، تقفل السماعة لتفتح في رأسك «استجواباً» تراودك الاسئلة عن العائلة. تفهم الآن كيف يصبح لكل عائلة «جبّ». أشقائي في أميركا أميركيون. أخي الأصغر في كندا سيصبح كندياً. أنا هنا في لبنان «باق، باق، باق» فلسطيني. يعني في المستقبل سيصبح هناك «جب» رامي قاسم الكندي، و«جبّ» طارق قاسم الاميركي، و«جبّ» قاسم قاسم الفلسطيني. أي إن الشتات لن ينحصر بالخروج من فلسطين، بل سيصل الى العائلة الواحدة وأولاد تلك العائلة.
أما المشكلة الأبرز فهي هل ستبقى فلسطين في ذاكرة أولاد أشقائي؟ وحتى في عقل أولادي يوماً ما؟ فإننا، أشقائي وأنا، نتذكر فلسطين ونعرفها لأننا عشنا لفترة في حياتنا كلاجئين. لكن هل ستكون هذه حال من ولد وعاش ككندي أو أميركي؟ وفي حال كان هناك «كم فلتة» من أولاد أشقائي عرفوا أصلهم وفصلهم، فهل سيعرف أولاد أولادهم ذلك؟ بصراحة، لا أعرف الاجوبة عن هذه الاسئلة. لكن ما يريحني هو معرفتي بالكثير من الفلسطينيين الذين ولدوا في الخارج ويعرفون تفاصيل فلسطين وتاريخ عائلاتهم وهم متشبثون بأرضهم ربما أكثر من أبناء المخيمات أنفسهم.
أما العزاء الأكبر بالنسبة إليّ، فإنهم لن يضطروا إلى العيش في هذا الصراع. فأنا «وأعوذ بالله من كلمة أنا»، مقتنع بأن فلسطين ستتحرر في السنين العشر المقبلة. هذا الاقتناع هو حلم أو جنون، ويمكنكم تسميته بما شئتم، لكنه اقتناع يكبر لدي كل يوم. لذلك أعتقد أن أولاد أشقائي وأنا سنكون في زمن لن نضطر فيه إلى التذكير بفلسطين، وأن لنا أرضاً هناك سرقتها عصابة، بل سنكون نعيش في زمن نروي فيه ما كان يجري معنا، وكيف أتى أشخاص احتلوا أرضنا وقمنا نحن بتحريرها. أما خوفي الأكبر فهو أن تمر «السنوات العشر العجاف» من دون تحرير فلسطين، حينها بالتأكيد سأموت «زعلاناً».