يعدّ الإعلام الإسرائيلي حراً ونافذاً ومؤثراً لدى الرأي العام في الدولة العبرية، يتأثر بالمزاج الشعبي ويؤثر فيه، كما يعد أيضاً ناقداً وذا أنياب حادة تجاه أي من القيادتين السياسية والعسكرية _ الامنية. في الوقت نفسه، وللمفارقة، يعدّ الاعلام الإسرائيلي بوقاً لصانع القرار في تل أبيب، وتحديداً خلال الحروب والمواجهات العسكرية التي يخوضها الجيش الإسرائيلي، بل ويسخّر كل إمكانياته باتجاه الإعداد للمعركة وتبرير اسبابها ودوافعها، ويعمد إلى توقع نتائجها بما يخدم الحرب والانتصار فيها من باب الحرب النفسية، ولم يسبق لحرب أن خاضتها إسرائيل، إلا كان إعلامها متجنداً في المعركة بكل طاقاته، والى أقصى حد ممكن. الفارق، يظهر في أعقاب الحروب ونتائجها، بين أن يكون الاعلام ممجداً للحرب ولقياداتها وكيفية إدارتها، إن نجحت وحققت أهدافها، وبين منتقد ولاذع في انتقاده، في حال الفشل والإخفاق.
و«حرب لبنان الثانية» عام 2006، بحسب المسميات الإسرائيلية، لم تشذ عن القاعدة. كان أداء الاعلام مصداقاً للمفهوم السائد: تأييد تام ومطلق للحرب ومبرراتها، ووقوف صلب خلف صانع القرار في تل أبيب، إزاء كل المقاربة السياسية والعسكرية التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية، ابتداءً من اليوم الاول للحرب، وصولاً حتى نهايتها. والاعلام الإسرائيلي لم يفصل، في محاكاة وتطابق مع رأسي الهرم السياسي والعسكري، ما بين التوقعات الخيالية والغايات الواقعية، وبين القدرة على تحقيق الانجاز، في حرب دامت 33 يوماً.
تجنّد الإعلام الإسرائيلي تجنّداً شبه كامل لصالح المؤسسة السياسية والعسكرية في إسرائيل، إلى حدّ وصفها إسرائيلياً «بكلب حراسة أمين لسياسة الحكومة خلال الحرب»، مع ذلك، شهد الأداء فوضى ورعونة في التغطية الاعلامية لمجريات المعركة، بعد الاخفاق الميداني تلو الاخر، في محاولة لتعمية الحقائق قدر الامكان، إذ كان الإسرائيليون يتلقون معلومات، في قسم كبير منها، مضخمة جداً لإنجازات مشكوك فيها، وتحديداً إزاء المواجهات التي كانت توقع قتلى في صفوف الجيش الإسرائيلي، اضافة إلى تضخيم الخسائر لدى الطرف الاخر، اضافة إلى التغطية شبه الكاملة للخلافات وسوء ادارة المعركة، لدى المؤسستين السياسية والعسكرية، وقصور الجيش، كمؤسسة، عن تحقيق اهدافه. مع ذلك، عمد الاعلام الإسرائيلي إلى خلق حالة من الأمل لدى الإسرائيليين، بأن الحرب مقبلة على انتصار كاسح، وتحديداً في الأيام الأولى للحرب، وهو بدوره انعكس سلباً، لاحقاً، على الرأي العام الإسرائيلي، في مقاربة ما بعد انتهاء القتال، وتكشف إخفاقاتها، والبدء بانتقادها، معنى أن الاعلام، من حيث لا يريد، كان مساهماً اساسياً في الاحباط ومشاعر الغضب التي تصاعدت، حول الصورة التي ظهر فيها الجيش الإسرائيلي، وهو ما حفر عميقاً في الوعي الجمعي.
في الثلاثين من تموز عام 2007، عرض مركز «كشيف» (مركز حماية الديموقراطية في إسرائيل) تقريراً بعنوان «وسائل الاعلام الإسرائيلية في حرب لبنان الثانية»، كان معبّراً وموضوعياً في مقاربته، ويمكن أن نقتبس منه الآتي:
«باستثناء حالات نادرة وشاذة عن القاعدة العامة، غطت وسائل الإعلام المركزية الحرب بصورة شبه مجندة تماماً. وانسحب ذلك على العديد من الحالات التي جلب خلالها مراسلو الوسائل الإعلامية الميدانيون مواد إخبارية اشتملت (على حقائق) كشف النقاب عنها في التقرير النهائي للجنة فينوغراد (لتقصّي حقائق الحرب وإخفاقاتها). لقد جرى تهميش هذه المواد ضمن التقارير عند تحريرها... وقد أوجدت وسائل الإعلام الإسرائيلية مناخاً عاماً من التأييد الكامل والمطلق للحرب ولعدالتها، وأقصت بصورة منهجية علامات الاستفهام التي طرحت منذ اليوم الأول لاندلاعها، من خلال تهميشها. مع هذا، فقد ظهرت مواقف نقدية إزاء حالات تكتيكية لإدارة الحرب، تعاظمت مع الاقتراب من النهاية، وبعدما اتضح بصورة جلية أن الجيش الإسرائيلي فشل في تحقيق أهدافه».
في أعقاب الحرب وافتضاح الأداء الهزيل للجيش الإسرائيلي قبالة حزب الله ميدانياً، حاول الاعلام المرئي والمسموع والمقروء تركيز غضبه وانتقاداته الحادة على ادارة الحرب، وحوّل الفشل من كونه فشلاً للجيش الإسرائيلي كمؤسسة، إلى فشل أداء قادته وخلافاتهم وقصور رؤيتهم، والى القرارات السياسية التي صدرت عن الحكومة. وقد نجح إلى حد كبير في تحقيق الغاية، إسرائيلياً، وبات السبب الاساسي في الانكسار أمام حزب الله، هو ثالوث الفشل الإسرائيلي الشهير: رئيس الحكومة إيهود اولمرت، وزير الدفاع عامير بيرتس، ورئيس هيئة الاركان دان حالوتس.
التقارير والتحقيقات الإعلامية، سلطت الضوء على ثالوث الحرب، وردت الفشل إليهم، وبات الجيش الإسرائيلي ضحية لهؤلاء، وليس سبباً للفشل نفسه. الحملة الإعلامية التي أعقبت الحرب تضمنت أيضاً إعادة ترميم صورة العسكر في وعي الإسرائيليين وحلفائهم، أولاً، ومن ثم لدى أعدائهم، ثانياً. كان المطلب ضرورياً، ولا يمكن تجاوزه، لانعكاساته السلبية على الكيان الإسرائيلي لاحقاً، وعلى مستوى الردع المنشود أمام أعداء إسرائيل. وخلال السنوات الاخيرة، تجند الاعلاميون بقوة، وتناولت تقاريرهم كل إخفاق على حدة، ما كان قد جرى تكشفه خلال الحرب، أو في أعقابها، لإفهام الجميع أن الجيش قد خلص إلى ترميم وتصحيح أدائه وقدراته القتالية، وبات مستعداً وجاهزاً لأي حرب مقبلة، إلا أن المقاربة في أحيان كثيرة كانت خيالية ومبتذلة وغير موضوعية، لكنها كانت تمر بثقة الجمهور الإسرائيلي وتأييده، إذ إنها تتساوق مع ما كان يريد ويأمل، حتى مع المبالغات، بأن تعود صورة المؤسسة العسكرية إلى ما كانت عليه في السابق.
أداء الاعلام الإسرائيلي في مرحلة ما بعد الحرب، حتى الآن، يركز على إعادة إنتاج صورة مغايرة لحرب عام 2006، من خلال تضخيم الجوانب التكتيكية، كإنجازات، والتي لم تكن في صلب الاهداف الإسرائيلية للحرب، ومن بينها، مثلاً، «إنجاز» الهدوء الامني على الحدود مع لبنان، وكأن هذا «الإنجاز» ليس إنجازاً يردّ للمقاومة نفسها، من ناحية لبنان.
بعد ست سنوات على الحرب، يركز الاعلام في إسرائيل على مهمتين: مواصلة ترميم صورة الجيش في نظر الجمهور الإسرائيلي، وتوجيه رسائل قوة وردع باتجاه أعداء تل أبيب، في تناغم تام مع المؤسستين السياسية والعسكرية، وبينها التهديدات المباشرة وغير المباشرة التي تطلق ضد لبنان، والتي تكثفت في الآونة الاخيرة، حيث حفلت الصحف بقدر من التصريحات والتحليلات التي تصب في خانة إعادة بناء قوة الردع لإسرائيل، وتصوير دولة الاحتلال بأنها لا تزال قادرة على التهديد و«الضرب بيد من حديد» لكل ما يهدد أمنها. ولعل ما يساق في الأيام الماضية من تهديدات موجهة إلى إيران ومشروعها النووي يصب في هذه الاتجاه.
يبقى الاعلام في إسرائيل حاضراً أبرز في الحياة السياسية الإسرائيلية، مجنّداً بشكل شبه كامل للطبقة الحاكمة، وتحديداً في المسائل التي تمس الأمن والسياسة الخارجية. في نهاية المطاف، الإعلاميون في إسرائيل هم في العادة، وفي معظمهم، مثلهم مثل السياسيين، من متخرّجي المؤسستين العسكرية والأمنية، وهؤلاء بطبيعتهم يحملون نتاجاً تراكمياً لخبرة استخبارية حقيقية تتفهّم هواجس المؤسسة الأم، وتحاكيها في كل ما يتعلق بالمصلحة الأمنية للدولة، الأمر الذي يُفسر المنحى المتواصل الذي يمارسه الإعلام منذ نشأته في أوائل القرن الماضي، والمتمثل في الرقابة الذاتية الرضائية، والوقوف دائماً خلف الحكومة الإسرائيلية وقراراتها العدائية، سواء في الحرب الماضية، أو المقبلة، أو في الإعداد والاستعداد لها، كما يحصل حالياً.