وجوه لم تعتد اللجوء
صباحاً، وما إن أخرج من المنزل، حتى أسمع صوت بائع الحليب «أبو مصطفى اليلداوي» وهو فلاح ودود من يلدا المنطقة المجاورة للمخيم، يلقي السلام ممازحاً بلهجته الريفية: «كيفك يا فلاستيني؟». هنا فقط أدرك أني استيقظت ومازلت لاجئاً. أمشي قليلاً لأتأكد أكثر من هويتي وأرقب وجوه المارّة، حينها أرى وجه جارتنا العجوز بتضاريسه المحفورة بالغربة وهي تجلس أمام باب دارها محنية الظهر تشعل سيجارتها بيد ترتجف، تزداد قناعتي أكثر بأني ما زلت لاجئاً ولا تكتمل القناعة.
أصل الشارع أخيراً بحذاء يغطيه الطين، رغم أننا في الصيف. أبتسم وأقول إنه المخيم. الناس في الشارع مسرعون إلى أعمالهم، وليس هناك من انتفاضة في فلسطين لتغير شكل الحركة داخل المخيم. يلفت نظري أحدهم يرتدي كوفية فلسطين، رغم درجة الحرارة العالية، فأقول في سري: هو مثلي استيقظ من نومه، عرف بأنه ما زال لاجئاً، غضب، فوضع الكوفية وخرج ليختبر لجوءه.
أسير من دون أن أعرف وجهتي. أحدّق أكثر في وجوه تعبر بي، وأصوات الحياة تعلو لتعلن عن يوم جديد خارج فلسطين.
أقف قليلاً عند زاوية الشارع المعروفة التي يقف عندها «أبو الركن». ومن لا يعرف «أبو الركن»، لا يعرف المخيم جيداً؛ فهو من يعتمر قبعته السوفياتية القديمة، مقلداً الكثير من الزعماء العرب ممن أحبهم وكرههم. ظهره متصلب، ورأسه مرفوع، ويداه إلى الخلف تمسك إحداهما الأخرى. لو شاهدته من الخلف لما فرقت بينه وبين حنظلة. يقول: «أنت فلسطيني شد ظهرك وارفع راسك»، ويبتسم ابتسامته الخفيفة التي تخفي وراءها مكراً وذاكرة وجنوناً. يبدأ بالتحليل السياسي لآخر الأحداث في فلسطين والعالم، فتظن نفسك أمام أهم المحللين السياسيين. وخلال لحظة فقط ومن دون سابق إنذار، يخرج عن توازنه ويخبرك عن نصائحه الجليلة التي قدمها للرئيس جمال عبد الناصر وللزعيم ياسر عرفات خلال النكسة، والخطة الشهيرة التي قدمها لصدام حسين ليهزم الأمريكان.
تعرف أن «أبو الركن»، كغيره، يعيش الواقع قليلاً. يجد نفسه لاجئاً فيخرج عن نفسه ويبدأ باستحضار جنونه المفاجئ وأكاذيبه الجميلة التي يحفظها أبناء المخيم لتكون وجبة ضحك جاهزة في كل سهرة من سهراتهم.
أتابع سيري محدّقاً لأجد نفسي فجأة ومن دون أن أشعر عند «الجسر». طبعاً، لا وجود هناك لجسر، وعلى بعد أمتار، سكة حديد قديمة مهملة. لا اعتقد أنها مجرد مصادفة أن يسكنوا بجانب السكة ويسموا مدخل المخيم «الجسر»، فعلاً إنهم اللاجئون الفلسطينيون الراسخون على حقهم في العودة وليسوا حالمين.
وجوههم ليست كأي وجوه. وجوه شكّلها تاريخ من الانتظار بعيون محدّقة دائماً نحو الجنوب، وجباه تبدو عليها آثار الشمس الحارقة خلال الوقوف المضني على أبواب مؤسسات وكالة الغوث. هذه الآثار الواضحة التي يسميها اللاجئون «طبعة الإعاشة»، وانأ أسميها «طبعة الإيمان» بالعودة لوجوه لم ولن تعتد اللجوء.
اللجوء إيمان بالعودة، تعريف جامع مانع لكل ما مرّ وسيمر به الفلسطينيون لاحقاً وقريباً، الدموع التي تنهمر يومياً عند «الحدود – المنفى»، أي في مخيم الهول للاجئين الفلسطينيين الخارجين من العراق إلى الحدود ما بين «منفيين» لا تزال منذ عام 2003 عالقة في المقل كما هم أصحابها عالقون. ليت صدام حسين سمع نصيحة «أبو الركن»، فكان أنقذ حياة مئتي حالم بالعودة.
مخيم النيرب في حلب منذ قليل، يفاجئك بأربعة عشر شهيداً منفياً قتلوا بدم بارد بين منفاهم ومثواهم المشرد في حقول إدلب القريبة من مخيمهم، وطبعاً لن تسجل القضية ضد مجهول، بل كعادتها ستكون عرضة للاستثمار السياسي كما هي دماء الفلسطينيين عادة، وفي النهاية سيكون دم الشهداء أيضاً مشرداً ما بين مجموعات إرهابية وجيش النظام.
ولن ينسى التشرد مخيم درعا اليوم، أو لنقل ما بقي من هذا المخيم الأقرب إلى حدود الوطن. القذائف التي تمطره منذ أكثر من شهر، أفنته وشردت من كان لاجئاً فيه، ليصبح اللاجئون لاجئين ملاحقين، مشردين، مطرودين، فلا المخيم بقي مخيماً، ولا الحدود سمحت لهم بأن يدخلوا إلى بيت آمن، فالأردن لا يستقبل حملة «تذكرة إقامة مؤقتة للاجئين الفلسطينيين في سوريا»، و«أبو الركن» يقف حائراً، ليس لأنه لا يملك نصيحة؛ فنصائحه لا تنفذ، بل لأنه لا يجد قائداً «فذاً» لينصحه كما نصح أبو عمار «بزمانه»، فيحبس النصيحة في دموع العين ويفضل الصمت كفلسطيني رافع الرأس مشدود الظهر، ورغم كل ما يحيط به من موت وتشرد يمازحك قائلاً: «خليك عم تحلم يابا».
إلهي أين المفر بحلمي، أنا الفلسطيني لم يعد لي ملجأ، فقدت وطني وضاع مخيمي، قتل من قتل وشرد من شرد وضاع من ضاع. إلهي صوت الناصري الفلسطيني على الصليب يجلجل في ما بقي من عقلي «إيليا إيليا لم تخليت عني».
مخيم اليرموك ـ ماهر أيوب