دمشق | قبل أسابيع، وفي مؤتمر أصدقاء سوريا في باريس، تحدث الناشط المعارض خالد أبو صلاح عن منطقة عازلة صنعها الثوار بأيديهم، ليتبين لاحقاً أن ما قاله لم يكن مجرد كلام. ففي الوقت الذي شُغلت فيه السلطة باشتباكات مع الجيش الحر وصلت للمرة الأولى إلى قلب العاصمة، وبينما كان النظام يفقد مجموعة من قادته العسكريين والأمنيين، كانت هناك معركة أخرى في شمال البلاد في حلب وإدلب، حيث تعد الجبهة الأكثر خطورة في سوريا.
بل ربما هي تفوق في خطورتها كل ما حدث في حمص، نظراً إلى وجود الورقة الكردية من جهة والطبيعة الجغرافية لإدلب من جهة أخرى. والأهم إعلان الجناح المسلح في المعارضة سيطرته على المنافذ الحدودية مع تركيا، وهو ما من شأنه إعلان مشروع جدي للمنطقة العازلة التي تحدث عنها الأتراك والمعارضون السوريون أخيراً.
ولا يتردد مسلحو «الجيش الحر» في شمال البلاد في الحديث جهاراً عن منطقتهم العازلة التي يقولون إن النظام فقد سيطرته عليها، ومنها تسلل معارضون كثر إلى خارج البلاد هرباً من قبضة النظام. كذلك دخلت عبر الحدود الشمالية عشرات الشخصيات لزيارة هذه المناطق، أبرزهم رئيس المجلس الوطني السابق برهان غليون، فيما يجري تهريب الأسلحة بكل أصنافها من تركيا إلى الجيش الحر. كل هذه العوامل دفعت النظام إلى إعلان حسم عسكري واسع النطاق في الشمال منعاً لإنشاء المنطقة العازلة.
تقع إدلب في شمال البلاد بين محافظتي حلب واللاذقية، وتحدّها من الشمال تركيا، حيث تعتبر المنطقة الحدودية جغرافياً مكونة من مناطق جبلية وغابات واسعة، لكنها سهلة السيطرة العسكرية. وتعتبر من المناطق ذات الهوى المعارض بشدة للنظام. فقد انطلقت التظاهرات في ريف المحافظة غير متأخرة عن درعا، مفجرة الاحتجاجات. وتصاعدت تدريجياً في ظل امتلاك معظم أهالي الريف أسلحة للدفاع عن أراضيهم. وهو ما جعل النظام يجرد حملة عسكرية واسعة في جسر الشغور امتدت إلى باقي الريف الإدلبي، وليخرج الرصاص من بين أغصان الزيتون ولتخرج معه الآلاف من العائلات السورية إلى تركيا، ما فتح الباب بشكل كبير على أهمية تلك المنطقة بالنسبة إلى المعارضة السورية المسلحة ومعها تركيا. وأتبع ذلك معارك طاحنة بين مقاتلي الجيش الحر والنظام في القرى المحيطة بإدلب كخان شيخون وسلقين وسراقب وأريحا، لتصل هذه الاشتباكات إلى إدلب المدينة. وهو ما حول معظم هذه المناطق إلى ساحات اقتتال بين الجيش الحر والجيش النظامي، لتصبح تحت سيطرة المعارضة المسلحة، رغم أنها شهدت أخيراً عمليات عسكرية للنظام وصلت إلى حد قصف المناطق الحدودية وصولاً إلى إسقاط الطائرة التركية. وهو ما أعطى المعارضة المسلحة سهولة في التحرك وتنظيم كتائب الجيش الحر وصولاً إلى إنشاء ممرات برية لإيصال معدات الاتصال والمساعدات الطبية، وبالطبع الأسلحة التي نشط الكثيرون في إدخالها عبر الحدود. وعند الحديث عن السلاح بالنسبة إلى الجيش الحر، وصل الأمر إلى إدخال أسلحة ثقيلة مع حديث البعض عن مدفعية مضادة للطائرات أصبحت في قبضة المسلحين. ومع انتهاء المعارك في دمشق وقرار السلطة التوجه نحو الشمال، يتوقع كثيرون أن تكون المعركة مختلفة عن كل ما حصل من اشتباكات بين النظام والجيش الحر. وبالانتقال من إدلب إلى حلب، أدرك المعارضون أن النظام لن يتهاوى ما لم تخرج عاصمة سوريا الثانية ورئتها الاقتصادية عن سيطرة النظام. فانطلقت الاحتجاجات بدءاً من جامعة حلب إلى أحياء عديدة، قبل أن تنطلق معارك طاحنة مع دخول الجيش الحر إلى قلب المدينة بعد أن سيطر على ريفها وسيطر معها على المعابر الحدودية مع الأتراك. ويبدو من اللافت أن حلب هي ذات تنوع عرقي وطائفي كبير بين سنّة وعلويين ومسيحيين وعرب وتركمان وأرمن وأكراد. والأخيرون لا يزالون خارج إطار الاحتجاجات الشعبية، ويقطنون في قرى حدودية مع تركيا ينشط فيها حزب العمال الكردستاني الموالي نوعاً ما للنظام. وهو ما يدفع الأتراك ربما إلى الحماسة أكثر تجاه دعم المسلحين في تحرير هذه المنطقة، ما من شأنه إعاقة عمل الحزب المغضوب عليه من تركيا، فيما يتركز العرب في ريف المحافظة الذي نجح الجيش الحر في السيطرة عليه، ثم عاد ففقد السيطرة إثر معارك شديدة مع النظام. وبدت النتيجة أشبه بالريف الدمشقي إن لم يكن أكثر خطورة لجهة التركيبة العشائرية المناهضة للنظام فيها، فيما تتركز صعوبتها بالنسبة إلى الجيش الحر في جغرافيتها المسطحة التي تعرقل عملية التنظيم والتسليح بالنسبة إليهم. وفي الحديث عن كتائب الجيش الحر، فإنه من اللافت في المنطقة الشمالية في حلب وإدلب وريفهما أن كافة الفرق العسكرية قد اتحدت تنظيمياً تحت راية واحدة، فيما يشير ناشطون إلى أن كتائب المعارضة في الشمال هي الأكثر تسليحاً، بل تتفوق في ذلك على تلك المتمركزة في حمص. ويعود ذلك إلى الطبيعة الجبلية في إدلب، والتي تسمح بالنسبة إلى الجيش الحر بتهريب السلاح الخفيف ومعدات الاتصال القادمة من تركيا. وقد تطور الأمر في الآونة الأخيرة مع وصول كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة والرشاشات استعداداً لمعركة دمشق الكبرى، والتي «لم يحن وقتها» بعد بحسب قول ناشطين. ووفقاً للناشطين، ستسمح المعركة لآلاف المقاتلين في حلب وإدلب وحمص ودرعا بالتوجه إلى عاصمة الأمويين وشن هجمات على النظام، مستفيدين من أرضية صلبة بحسب قولهم. وتتجسد في إعلان المنطقة العازلة ضمن ريف حلب وريف إدلب مع دعم تركي قد يخترق الحدود بعمق يتجاوز 20 كيلومتراً. كل هذه العوامل تدفع المعارضين للقول إن حلب ليست دمشق، وإن المعركة الحقيقية في الشمال أكثر منها في العاصمة.
في المقابل، يرى النظام أن الحسم في الشمال بات ضرورياً أكثر من أي وقت مضى. فالسيطرة على الحدود وإضعاف قدرة المسلحين في هذه المناطق بمثابة الصمام القادر على إيقاف النزف والسيطرة عليه. أضف إلى ذلك أن النظام حتى الآن لا يزال يعتمد على حزب العمال الكردستاني ذي النفوذ الواسع في مناطق الأكراد والقادر على تحييدهم عن الصراع إلى حد ما، ما يسهل على السلطة القدرة على الحسم.