تونس | بعد أيام من الاعتكاف في قصره، خرج رئيس تونس، المنصف المرزوقي، عن صمته ليطلق تحذيرات من عودة الاستبداد واندلاع ثورة جديدة. تصريحات تعكس شعوره بالغدر في قضية تسليم البغدادي المحمودي، وأنّه رئيس فاقد للصلاحيات، وفقاً للقانون المؤقت لتنظيم السلطة، الذي مضى عليه بعد تحالفه مع الحركة الإسلامية «النهضة». قد تكون صحوة المرزوقي متأخرة بعض الشيء، لكنها تطرح كثيراً من الأسئلة حول ما يدور من صراع بينه وبين بعض أعضاء «النهضة» في قصر قرطاج، ومعهم «أهل القصبة»، مقرّ «الحكومة الإسلامية». المرزوقي، الذي دافع في الماضي القريب عن الإسلاميين، وقال إنّهم ديموقراطيون، وإن ترويكا «النهضة» هي أقوى حكومة في تونس، وأنها حكومة ثورة، اصطدم بحقيقة أخرى دفعته الى إرسال رسائل الى جماعة «النهضة» في المجلس التأسيسي، والى «أمير الجماعة»، راشد الغنوشي، الذي استسلم للنوم عند بداية المرزوقي بالحديث. وقال المرزوقي إن «الشعب الذي انتخبكم لن يرضى بديموقراطية شكلية، وقد يضطر إلى الثورة من جديد علينا جميعاً إن لم نحقق له ما يريده، وخصوصاً في التنمية للقضاء على الفقر والتهميش». الرئيس التونسي لم ينس التخلي عن الطوباوية والمثاليات، وتساءل «ما قيمة ديموقراطية لا تطعم جائعاً ولا تكسي عارياً ولا توفر كرامة. أليست أولى شروطها العمل والمسكن والتعليم والصحة؟».
تصريحات تأتي في وقت اصطدم فيه الحكم الجمهوري في تونس بطموح جماعة تريد التشبث بالسلطة على حساب الشعب. وفي وقت تعيش فيه البلاد مرحلة انتقالية حرجة على جميع الصعد، فإن الحكومة التي تسيطر عليها الحركة لم تستطع أن تقدم البديل للإصلاح بشكل يخدم مستقبلاً سياسياً ديموقراطياً، بل قامت بزرع رؤوس تدين لها بالولاء الإيديولوجي والمصلحي، حتى ولو كانوا من صقور التجمع المنحل.
ومنذ صعود السلطة ثلاثية الرأس الى الحكم، قامت «ترويكا النهضة» بتعيين 1300 من أزلامها على رأس مؤسسات الدولة، حتى تلك التي تلتزم إدارتها خبرات تكنوقراطية، في ضرب من ضروب «عودة التجمع» لكن بصورة أبشع وهي صورة الدين والثيوقراطية.
يقول ميكيافيلي في كتابه «الأمير» إن «الحاكم لا يبحث من وراء الدين عن تحقيق الفضيلة بل يرنو إلى الاستبداد». كلام واضح جداً؛ فمليون ونصف مليون تونسي، الذين منحوا الأغلبية للحركة الدينية في المجلس التأسيسي، كانوا يطمحون لحكومة ثورة، ولم يتطلعوا إلى حركة تستنسخ «مؤسسات التجمع» وتلجأ إلى صقوره كي تتمكن في الإدارة. وهكذا وقع زواج المصلحة بين التجمع الوطني و«النهضة»، بحيث إن الأول يحقق التمكين للثاني، مقابل غض النظر عن المحاسبة والتجارة بمناصب الدولة من قبل الثاني، وهذا كان أحد أسباب استقالة محمد عبو، الأمين العام لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي قرر الانسحاب لأنه لا يملك صلاحيات كافية لفتح ملفات الفساد الإداري.
ولم تقتصر التوليفة بين التجمع والنهضة على المناصب الإدارية، فحتى برنامجها الاقتصادي لم تستطع تطبيقه، بسبب تأخر تعيين ميزانية للدولة إلى حدود شهر نيسان الماضي وعدم المصادقة على قانون المالية، وهو ما دفعها الى اللجوء لمقاربة وزراء «العهد البائد» في التنمية، والتي لا تعطي المناطق الداخلية والمهمشة الأولوية في الاستثمارات، وهو ما أدى في البداية الى اشتعال ثورة «الخبز والكرامة» في 2008.
من جهتها، حذرت المجموعة الدولية للأزمات في تقرير لها حول تونس، من أن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، التي كانت السبب الرئيسي في اندلاع ثورة «الحرية والكرامة»، مثل ارتفاع معدلات البطالة والفقر واستشراء الفساد، لا تزال «من دون حل، ويمكن أن تؤدي إلى تأجج الأحداث من جديد». هذا الاستنتاج يأتي في ظل مؤشرات اقتصادية حمراء، منها تفاقم نسبة البطالة التي باتت تصل إلى 800 ألف عاطل من العمل (بزيادة النصف عما كانت عليه إبان الثورة)، إضافة الى زيادة نسبة التضخم في العملة، والتي سجلت ارتفاعاً حسب بيان لمحافظ البنك المركزي المقال مصطفى كمال النابلي إلى 5.4 في المئة، حسب أرقام شهر آذار الماضي. كذلك أعلن البنك المركزي أنه سجل تراجعاً لاحتياطي البلاد من النقد الأجنبي للشهر الثاني على التوالي، بلغ خلال فترة الشهرين الماضيين 6.830 مليار دولار، أي ما يعادل 106 أيام من التوريد، مقابل 113 يوماً في نهاية سنة 2011. وعزا هذا التراجع إلى تفاقم العجز التجاري وتوسعه ليبلغ 5.1 % من إجمالي الناتج المحلي، وذلك بسبب تقلص عائدات صادرات الصناعات غير المعملية والخدمات.
المؤشرات الخطيرة التي أعطاها البنك المركزي ووجهت من قبل «ترويكا» السلطة بإقالة مصطفى كمال النابلي، فيما روجت «النهضة» لنسب نمو اقتصادية مغايرة لحسابات البنك المركزي. ليقع بذلك النابلي ضحية «صبيانية سياسية» مارستها الحركة بمنطق الأغلبية والأقلية، وهو ما لا يتماشى مع مقتضيات المرحلة الانتقالية، بقدر ما يخدم خطاب «مشروع ديكتاتوري» يُطبخ على نار هادئة إذا ما لم يجر التصدي له في الاستحقاق الانتخابي التالي، والذي حدده المرزوقي في ربيع العام المقبل، مشيراً في خطابه إلى أنه «إذا كان هناك هاجس يجب أن يكون حاضراً عند صياغة دستور تونس وعند مناقشته، فهو حماية الأجيال المقبلة من عودة الاستبداد البغيض باستفزازه وقمعه وفساده وتزييفه». وأضاف في لغة حملت رسالة شديدة اللهجة لرأس السلطة الثيوقراطية في البلاد «جذور الاستبداد عميقة فينا، هي ثقافية ونفسية، ولحماية أنفسنا من أنفسنا، ومن بعضنا البعض من هذا الظلم المتأصل في نفوسنا جميعا، لا بد من أن ينجح الدستور في توزيع محكم للسلطة التنفيذية بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة حتى لا يستفرد شخص، أياً كان، بسلطة القرار».