دمشق | يعيش، هذه الأيام، سكان العاصمة دمشق والمناطق المحيطة بها حالة من الفوضى الأمنية و«الاقتصادية». تدور معارك كرّ وفرّ على مدار الساعة، بين وحدات من الأمن والجيش السوري بمواجهة عناصر مسلحة من «الجيش السوري الحر»، حولت الكثير من المناطق السكنية الآمنة إلى ساحات حرب حقيقية، للسيطرة عليها وضمها للمناطق «المحررة» حسب خطاب «الجيش الحر»، أو إعلانها مناطق «آمنة ونظيفة من المجموعات الإرهابية»، حسب الرواية الرسمية. وبين الروايتين، فضّلت عائلات سورية كثيرة، حزم ما تستطيع جمعه من أمتعة وحاجيات أساسية، والنزوح إلى أماكن أكثر أمناً بعيداً عن ساحات المواجهات والقتال. يخبرنا أبو مصطفى (44 عاماً)، أحد سكان منطقة المعضمية الواقعة على بعد 10 كيلومترات جنوبي العاصمة دمشق، أنّ «رصاصة طائشة استقرت ليل أمس في شرفة جيراننا في البناء المقابل، أمضينا الليلة تحت الأسرّة، لا نعرف مصدر الرصاص ولا أين يستقر في المرة المقبلة، لن أنتظر أن يصلنا الدور هذه الليلة». اليوم في دمشق، من الممكن أن يتحوّل سائق سيارة أجرة إلى مصدر إعلامي أكثر صدقية وواقعية، من جميع الوسائل الإعلامية، والمحطات الفضائية مجتمعة. «على طريق المحلق الجنوبي، أوقفني حاجز للأمن السوري للتفتيش، مضيت في طريقي، حتى أوقفني حاجز للجيش الحر على بُعد 300 متر من الحاجز الأول، علقت بعدها أكثر من نصف ساعة، في معركة حامية بين الحاجزين، والرصاص يطير فوق رأسي»، يروي شادي أبو سباع (37 عاماً) من سكان منطقة دروشا. ويتابع قائلاً «نحن فقط من يسدد فواتير صراعات السيطرة وفرض الهيمنة على الأرض، بين الجيش النظامي والجيش الحر. إلى متى سنبقى نعيش هذه الحالة، لو أصيبت السيارة التي أعمل عليها، سيغرمني صاحبها بالأضرار. لم أعد أكسب ربع ما كنت أكسبه من عملي قبل الأحداث». نسأل أبو سباع عن رأيه بصدقية وسائل الإعلام المختلفة التي تنقل الأحداث، باعتباره يقضي نهاره متجولاً في شوارع العاصمة وضواحيها، فيجيب «كل واحدة من هذه المحطات الفضائية، تنقل الأخبار وتقدمها حسب السياسة التي تفرضها إدارتها. الإعلام السوري الرسمي يؤكد أن الوضع تحت السيطرة، ويتكلم عن عودة الأمان والأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً. بدورها تضخّم وسائل الإعلام الأخرى من حجم انتصارات الجيش الحر والعصابات المسلحة على الأرض». لعب سائق الأجرة دور المظلوم والمغلوب على أمره. تقاضى أجرة مضاعفة عن الأجرة النظامية التي سجلها العداد الرسمي. تبريره «ما في بنزين بالبلد أستاذ... لك بكفي لاقيت تاكسي بظروف القصف والرصاص والخطر». يبدو أنّ كل شيء في دمشق مرهون بمزاج الحرب والفوضى وغياب النظام، والمزاج الشخصي للناس في الشارع.
رغم ظهور مسؤولين سوريين على الإعلام الرسمي، لطمأنة المواطنين حول توفّر «الوقود من بنزين ومازوت بكميات تزيد على الحاجة، بالإضافة إلى جميع المواد الغذائية الأولية، وخاصة الخبز والخضر». المشهد في الشارع: حالات ازدحام غير مسبوقة أمام محطات الوقود، فقد تصل طوابير السيارات في بعض الأحيان إلى مئات الأمتار.
«في أول قرار له، رفع الدكتور قدري جميل وزير التجارة الداخلية في الحكومة السورية، سعر ليتر المازوت 3 ليرات سورية ليصبح سعره الحكومي 23 ليرة، كما ارتفع سعره في السوق السوداء من 35 ليرة الى 45 ليرة سورية. شكراً لك أيها الوزير الشيوعي المعارض على هذه الهدية في شهر رمضان»، يقول إلى «الأخبار» سائق حافلة ركاب، وهو ينتظر دوره لتعبئة خزان مركبته.
ليس بعيداً عن محطة الوقود، احتشد المئات أمام الأفران الخاصة والحكومية، للحصول على حصص مضاعفة من مادة الخبز، «لا نعرف مصيرنا في الأيام المقبلة. عوّدنا إعلامنا الرسمي على إخفاء الحقيقة دوماً، كنت أشاهد التظاهرات مع بداية الأحداث من شباك منزلي، في الوقت الذي كانت تنفي فيه الفضائية السورية مظاهر الاحتجاج كلها»، يخبرنا أحد المواطنين أمام فرن «الشيخ سعد» في منطقة المزة، وسط العاصمة دمشق.
فيما يروي رفيقه «عائلتي كبيرة جداً، ويجب عليّ تأمين الخبز والمواد الغذائية الأولية بكميات كبيرة، خوفاً من فقدها في الفترة المقبلة». وتزامن رفع الحكومة السورية سعر ليتر المازوت، مع بداية شهر رمضان، وتصاعد أحداث العنف والمواجهات المسلحة في عموم المدن والمحافظات السورية. هذا ما تسبب بارتفاع كبير في أسعار الخضر وكل المواد الغذائية على اختلاف أنواعها. «ساعات طويلة قضيتها اليوم أبحث عن علبة حليب لطفلي الرضيع. المحال معظمها مغلق، والبقية أفرغت تماماً من محتوياتها. كأننا في حرب حقيقية، كنا ننظر إلى حمص كمدينة منكوبة، حاولنا مساعدة أهلها حسب استطاعتنا، اليوم تحولت كل سوريا إلى مدينة منكوبة على ما يبدو»، يخبرنا مواطن سوري تقطعت به السبل حتى وصل إلى مؤسسة استهلاكية، تقع خلف القصر العدلي الجديد على طريق المزة. يصرخ موظف في المؤسسة، عينها، في المواطنين الذين احتشدوا بالعشرات أمامه قائلاً: «كل شيء متوفر صدقوني، أنتم لا تدركون أنكم تساعدون في خلق أزمة لا مبرر لها أبداً». سيارة شحن كبيرة محملة بجميع أنواع الخضر والفواكه والمواد الغذائية، وقفت أمام مخازن المؤسسة. تكبر زحمة المواطنين، الذين اشتروا كميات فائضة عن حاجتهم بأسعار معقولة، بعكس السوق المحلي الذي تضاعفت به الأسعار. «أكثر من 40 عاماً عاشها الشعب السوري في ظل قانون الطوارئ، لم تساعده على تفهم طبيعة الأزمات والمشاكل الداخلية، نتيجة حرب أو أزمة اقتصادية. اليوم يفكر الجميع بأنفسهم غير مكترثين بغيرهم»، يقول أحمد (26 عاماً)، الطالب الجامعي المستاء من الحالة المتردية التي وصلت إليها الأوضاع المعيشية في سوريا. ويضيف «البارحة، حاولت مع أصدقائي شراء بعض المساعدات، وإيصالها للنازحين السوريين في إحدى مدارس منطقة الصحنايا. لا يمكن وصف المشهد، لا شيء في الأسواق، لم نجد ما نشتريه للنازحين الجياع والمحتاجين. من يحمل مسؤولية الوضع الذي وصلنا إليه، التاجر أم المواطن أم النظام نفسه؟»، يتساءل الشاب السوري الغاضب، ملخصاً ما يدور في ذهن الغالبية العظمى من السوريين اليوم.