القاهرة | تلك الصور المتتابعة بالأبيض والأسود لجمال عبد الناصر، رافعاً ذراعه لتحية أمواج متلاطمة من الجماهير، هي الصورة النمطية لثورة «يوليو» في أذهان القطاع الأوسع من المصريين؛ ذاك الذي لم يشهدها. تلك الشعبية الجارفة للزعيم، كما تلقبه قطاعات واسعة، لا تُفسر إلا كمحاولة استرجاع لتلك الحركة المحدودة من العشرات من الضباط.
ضباط «يوليو» أولئك كانوا من أبناء الطبقة الوسطى. لم يكن هناك منهم من أعلن بوضوح انحيازه للاشتراكية، إلا يوسف صديق وخالد محيي الدين. سلكوا مع ذلك طريقاً اجتماعياً واضحاً في الأشهر الأولى التالية للثورة. وكان على رأس الإجراءات الاشتراكية السريعة هذه قانون الإصلاح الزراعي الأول في أيلول من العام نفسه. هذا القانون الذي هدف، في غضون شهر ونصف شهر من إطاحة الملك فاروق، الى القضاء على الإقطاع كواحد من الأهداف الستة لحركة الضباط.
هكذا انعكس تحرّك الدبابات التي حاصرت القصر الملكي على حياة آلاف الأسر الريفية المعدمة. ارتفع نصيب الملكيات الصغيرة من الأراضي، أقل من خمسة أفدنة، من 35.4 في المئة الى 46.4 في المئة، بحسب دراسة التحولات الاقتصادية والاجتماعية في الريف المصري لمحمود عبد الفضيل. غير أن أبرز آثار قانون الإصلاح الزراعي كانت تلك التي مست العلاقات الإيجارية، المتضمنة لتخفيض القيمة الإيجارية للأرض، وتأكيد الحماية القانونية للمستأجر ضدّ الطرد من الأرض ووضع حد أدنى لمدّة عقد الإيجار (ثلاث سنوات) تماشياً مع الدورة الزراعية الثلاثية.
وكانت جماعة الإخوان المسلمين، التي ينحدر منها الرئيس محمد مرسي، أبرز من هاجم إجراءات الإصلاح الزراعي، وهو ما برّره مؤرخ الجماعة محمود عبد الحليم في كتابه «الإخوان المسلمون، أحداث غيّرت التاريخ» بقوله إن «حركة الإخوان تريد توزيع الأراضي المصادرة بقانون الإصلاح الزراعي على الفلاحين الأثرياء وليس على المعدمين، لأنهم (أي الأثرياء) لديهم القدرة على الإنفاق على الأرض، بينما المعدمون لن يستطيعوا ذلك، فيتدهور الإنتاج الزراعي وتتدهور أحوال الفلاحين كما هو حادث الآن».
وهو موقف انعكس لاحقاً في تأييد الجماعة في عام 1992 لقانون تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر في الأرض الزراعية، الذي ألغى مكتسبات الفلاحين المستأجرين وأفضى تطبيقه في 1997 الى انتفاضة فلاحية عارمة. والجماعة في هذا الصدد لا تزال عند موقفها، إذ يشدد المتحدث باسم اللجنة الاقتصادية في حزب «الحرية والعدالة»، محمد جودة، لـ«الأخبار» على رفض الجماعة لتعديل القانون أو إلغائه، فـ«من غير المقبول عقلاً ولا شرعاً أن يتقاسم المستأجر ملكية الأرض مع مالكها».
وفي ظل الحكم المباشر للمجلس الأعلى للقوات المسلحة في العام الماضي، جرى إعداد الموازنة الأولى بعد الثورة، على يد سمير رضوان، وزير المال الأسبق والعضو السابق في الحزب الوطني، وتضمنت عدداً من الإجراءات الاجتماعية المباشرة التي بررتها الموازنة بـ«تكرار الإضرابات العمالية وتعطيل الإنتاج من أجل تحسين دخول الفئات الأقل دخلاً في المجتمع».
إجراءات من قبيل «مراعاة إدراج مبلغ 2 مليار جنيه تخصص للتدريب لخلق فرص عمل جديدة للشباب وزيادة معدلات التشغيل وخفض معدلات البطالة ورفع حد الإعفاء الضريبي من 9000 جنيه إلى 12000 جنيه، ما أدى الى خفض حصيلة الضريبة على المرتبات بنحو 3.2 مليارات جنيه». لكن سرعان ما تم تعديل الموازنة على خلفية تراجع المجلس العسكري عن الموافقة على اقتراحات رضوان بالتوجه إلى الاقتراض من البنك والصندوق الدوليين.
واللافت أن حكومة عصام شرف الأولى، التي فوجئت وقتها بالعجز الناجم عن رفض الاقتراض الخارجي، تراجعت عن تطبيق مصدر جديد للإيرادات للموازنة العامة، وهي الضريبة على الأرباح الرأسمالية في البورصة بنسبة عشرة في المئة على توزيعات أرباح شركات الأموال، بفعل ضغوط مستثمري البورصة. وسرعان ما استدعى هذا التوجه مقارنة سريعة مع نتائج الخطة الخمسية الأولى، من 1959 ــ 1960 إلى 1965 ــ 1966: « في عام 1959 ــ 1960، كان الدخل الكلي المحقق هو 1285.3 مليون جنيه وكانت الأجور 549.5 مليون جنيه أي بنسبة 42.8 في المئة من الدخل، وكانت عوائد التملك 735.7 مليون جنيه، أي بنسبة 57.2 في المئة من الدخل. أما في عام 1964 ــ 1965 فقد أصبح الدخل الكلي بالأسعار الجارية هو 1884 مليون جنيه، وأصبحت الأجور 878.9 مليون جنيه، أي بنسبة 46.7 في المئة من الدخل، وأصبحت عوائد التملك 1005.1 مليون جنيه بنسبة 53.3 في المئة من الدخل»، بحسب كتاب سنوات التحول الاشتراكي لعلي صبري، أحد مساعدي جمال عبد الناصر.
أحدث نظام جمال عبد الناصر كل هذا التأثير المباشر على مستوى معيشة الناس «لا بالاعتماد على قوى السوق، بل بالتدخل المباشر في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. من أهم صور هذا التدخل، إصدار قوانين الإصلاح الزراعي المتتالية، ابتداء من 1952، وتمصير ثم تأميم الصناعات الرئيسية والبنوك وشركات التأمين والكثير من المشروعات التجارية ومشروعات الخدمات، وتبني سياسة التخطيط المركزي، والتدخل الصارم في التجارة الخارجية، استيراداً وتصديراً، وفي تحديد الأسعار، والاستخدام الواسع لوسائل السياسة النقدية والمالية لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية، والتوسع الكبير في ما تقدمه الحكومة من خدمات مع توفير أهمها بأسعار مدعومة بشدة من قبل الدولة، كما في ميادين التعليم والصحة والإسكان»، بحسب ما يؤكد جلال أمين، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في القاهرة.
لكن عبد الناصر لم يكن اشتراكياً بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، ولم يلجأ إلى التأميم إلا مضطراً «إذ فوجئ الرجل بعد وضع الخطة الخمسية الأولى بأن شركات المقاولات أخذت تستغل طموح الخطة الكبير وبدأت في رفع أسعار خدماتها شيئاً فشيئاً، بدءاً من أسعار نقل التراب، وصولاً الى أسعار مواد البناء التي جرت المضاربة عليها على نحو ضاعف عدة مرات تكاليف تنفيذ المشاريع الاستثمارية في خطة الدولة، وهو ما أوصل ناصر الى قناعة أخذت تتشكل شيئاً فشيئاً لديه بعدم جدوى الاعتماد على القطاع الخاص وحتمية التأميم. من هنا، بدأت قرارات التأميم عام 1961 وصولاً الى عام 1964. وأثار حديثه عن الرأسمالية الوطنية تحفظ الماركسيين، لكنه ببساطة لم يكن يستهدف إلغاء الرأسمالية»، كما يقول وزير التخطيط الأسبق محمد محمود الأمام.