«رحل الرجل الغامض». «أغلق الصندوق الأسود». «عقل مبارك توقف». عبارات عديدة تداولها مستخدمو موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» لوصف وفاة عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية السابق، ورئيس الاستخبارات السابق عن عمر يناهز 76 عاماً، بمستشفى كليفلاند بالولايات المتحدة، أثناء خضوعه للعلاج، لتستعد السفارة المصرية هناك لنقل جثمانه إلى مصر لإقامة جنازة عسكرية له قبل دفنه. وعلى الرغم من إعلان حسين كمال، مساعده الأبرز والملقب إعلامياً «بالراجل اللي واقف وراء عمر سليمان»، أنه توفي «أثناء خضوعه لفحوصات طبية، وأن الموت حدث فجأة»، إلا أن مصادر أخرى قريبة من دائرة سليمان أكدت أنه كان يخضع لعلاج القلب وأنه كان مريضاً منذ فترة، وأنه جاء من أبو ظبي سراً للخضوع للعلاج، قبل أن يتوفى فجر أمس الخميس.
ولعل العبارات التي استخدمت لوصف رحيل سليمان، والتضارب في المعلومات عن سبب وفاته، تلخص شخصية هذا الرجل الذي قبع على رأس جهاز الاستخبارات العامة نحو 18 سنة منذ أن تولاه في كانون الثاني عام 1993.
هذا الغموض الذي لف سليمان وأحواله الفترة الأكبر من حياته، كان طبيعياً بالنسبة إلى شخص يحمل أسراراً تمس كل أرجاء الدولة المصرية وعدداً من الملفات الإقليمية. فهو جلس على رأس جهاز الاستخبارات في تاريخ مصر الحديث أطول فترة، وهو رجل مبارك الأمين الذي صعد نجمه أمنياً بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، في أديس أبابا بإثيوبيا عام 1995، إذ أصر على وجود سيارات مصفحة في وفد الرئيس ومرافقته بالرحلة إلى هناك. هذا الأمر جعل مبارك يثق به إلى درجة منحه سلطة إدارة ملفات حساسة كتصدير الغاز المصري لإسرائيل بثمن بخس، وملف المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، وإدارة جزء من ملفات الصراع مع الحركات المسلحة في مصر في التسعينيات. كما اختاره مبارك لمنحه ثقة تولي منصب نائب رئيس الجمهورية في 29 كانون الثاني عقب اندلاع جمعة الغضب في مصر وخروج الأحداث عن سيطرة مبارك، وهو ما يكشف حجم هذه الثقة، إذ امتنع مبارك عن تعيين أحد في هذا المنصب طوال 30 عاماً.
وكان سليمان يلقب برجل الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، نظراً الى دوره في برنامج عمليات التعذيب بالوكالة الذي نفذته واشنطن بالتعاون مع الأجهزة الأمنية لبعض البلدان العربية وأوروبا الشرقية. ورافق الغموض سليمان منذ أن التحق بالقوات المسلحة في التاسعة عشرة من عمره، عندما شارك في حروب اليمن عام 62 وحربي 67 و73، دون أن تُعرف طبيعة مهماته بها، إلى أن ترقى وتدرج في وظائف بالقوات المسلحة المصرية، مروراً بتوليه منصب رئيس فرع التخطيط العام بالهيئة العامة للقوات المسلحة، ثم مديراً للاستخبارات العسكرية عام 1992 قبل تولي منصبه رئيساً للاستخبارات العامة.
لم تنصبّ دراسة سليمان على العلوم العسكرية فقط، حيث درس في أكاديمية فرونزي بالاتحاد السوفياتي، وحصل بعد ذلك على ماجستير في العلوم العسكرية، لكنه درس أيضاً العلوم السياسية في جامعتي عين شمس والقاهرة ليحصل بعد ذلك على ماجستير في العلوم السياسية في الثمانينيات.
ومنذ أن أغلق ملف المراجعات للحركات الإسلامية الذي تأخر توقيع سليمان للموافقة عليه 6 أشهر، بعدما وقّع صاحب المبادرة مصطفى رفعت رئيس جهاز أمن الدولة في نهاية التسعينيات عليه، بدأ سليمان يتردد اسمه همساً في أروقة السياسة، قبل أن يعلو هذا الصوت رويداً ويخرج سليمان، ليكون ضمن الكادر الذي يظهر فيه الرئيس في مؤتمرات سياسية بحتة، سواء في جامعة الدول العربية أو غيرها، ويكون طرفاً ظاهراً في مفاوضات وأمور سياسية بحتة، ولا سيما في الفترة التي أعقبت الحراك السياسي الذي بدأ في مصر عام 2004 والذي تفجر معه جدل التوريث بشدة. وكان سليمان إحدى الأوراق البديلة لمبارك في حال فشل مشروع تولي الابن رئاسة البلاد، أو في حال رفض الجناح العسكري في النظام لجمال مبارك.
وهو الأمر الذي وصل إلى ذروته عام 2010 عندما أطلق مجهولون حملة بوسترات له في شوارع القاهرة مرشحاً للرئاسة عام 2011، وهو ما رفضه سليمان، مؤكداً احترامه وولاءه لمبارك.
وكان من بين الخطوات الغامضة، التي اتخذها سليمان، الترشح لرئاسة الجمهورية عقب الثورة في خطوة فجرت جدلاً كبيراً، نظراً إلى اتهامه الشعب المصري بأنه غير جاهز للديموقراطية، ولكونه رجلاً عاش طوال عمره في الظل. هذه الخطوة جرّت عليه انتقادات من معارضيه، فما كان منه إلا الرد بالقول إنه «يملك الصندوق الأسود الذي يحتوي على أسرارهم فيه»، ليردوا عليه بالقول نفسه، ولا سيما جماعة الإخوان والإسلاميين. وكان سليمان قد ادعى أنه تعرض لمحاولة اغتيال أثناء الثورة، نفاها العسكريون آنذاك وهو لم يثبتها.
والغموض لم يكن من نصيب الحياة السياسية لسليمان فقط. ووفقاً لمصادر مقربة من عائلته، فإن سليمان لم يولد في محافظة قنا بصعيد مصر، لكنه ولد في أحد الأحياء الشعبية بمحافظة القاهرة. وقالت المصادر إنه كان حسن العلاقة مع عائلته، حيث كان يفضل أن يقضي إجازته وسط أحفاده، إذ إنه أب لثلاث بنات، وكانت هداياه تصل إلى درجة أن أهدى أحد أشقائه سيارة جديدة.
ورغم غموض حياة سليمان، إلا أن الجدل الأكبر انصبّ فور وفاته على جواز أو عدم جواز الترحم عليه أو الدعاء له بالرحمة، إذ اعتبره كثير من النشطاء والإسلاميين بأنه عاث في الأرض فساداً وكان كنزاً استراتيجياً لإسرائيل مثل مبارك، وعدواً لحركات المقاومة ضد إسرائيل وأميركا. في المقابل، رأى آخرون أن «محاكمته العادلة في السماء، حيث لن تضيع الأدلة أو تطمس ولن يتأخر الشهود أو يكذبوا».