دمشق | في محاولة لسدّ نقص السيولة وهروب الإيداعات إلى المصارف المجاورة جراء الأزمة في سوريا، لجأت الحكومة السورية إلى وقف عملية منح القروض من قبل المصارف الخاصة والعامة، غير أن القرار أدى إلى خفض الأرباح واستياء العملاء وزلزلة العملية الإنتاجية برمّتها، وأدخل الاقتصاد السوري في غياهب المجهول.
مدير المصرف الصناعي الحكومي في سوريا، أنيس معراوي، لم ينف الأثر السلبي لعملية وقف القروض على عمل المصارف وأرباحها؛ لأن عمل الأخيرة أصبح بذلك «في اتجاه واحد بعد توقفها عن الاستثمار»، بل إنها أصبحت تتكبد أعباء دفع الفوائد على الودائع الجديدة و«لا تحصّل عوائد من فوائد القروض كي تدعم الأرباح». لكنه في المقابل، استبعد في حديث لـ«الأخبار» ما يُشاع من صدى «سمعة سلبية على المصارف السورية بعد اقتصار عملها على التسهيلات الائتمانية فقط»، مشيراً إلى أن الوضع الاستثنائي عام، سواء على المصارف أو على القطاعات الاقتصادية الأخرى، وهو ما يبرر للمصارف خطوتها، مؤكداً أن «ما يهمّ هو الوفاء بالتزامات المصارف تجاه المودعين إن كنا نتكلم على الثقة أو السمعة».
وكانت السلطات السورية، التي طلبت أخيراً عبر وزارة المال من جميع المصارف العاملة في سوريا وقف القروض بكافة أشكالها والاستمرار بالتسهيلات الائتمانية القائمة أو تلك التي صُرف جزء منها، قد برّرت قرارها بأنه جاء «تجنباً للضرر بمصالح الفاعليات الاقتصادية، بما فيها الصناعة وفق الضوابط بمنح الائتمان، وبما يتعلق بتوفير السيولة».
وسادت حالة من الامتعاض عند السوريين إثر توقف القروض المصرفية. وعاب تاجر المواد الغذائية، عدنان جبريل، على الحكومة هذا القرار ووصفه بالارتجالي، لأنه لم يأخذ في الاعتبار الوضع الاقتصادي العام. واقترح «منح القروض لمن لديه ملاءة أو ضمانات سداد، وخاصة من يُسهم بتوفير مستلزمات السوق من سلع ومنتجات، صناعياً كان أو تاجراً».
ورأى الحرفي الصناعي، أحمد علاوي، أن توقف القروض مساهمة من الحكومة في تشديد الحصار على المواطن، قائلاً: «أموالنا في بطون التجار والشعب وتوقف القروض يسرع في خروجنا من العملية الإنتاجية». ولعل الآثار التي انعكست على الاستثمار السياحي كانت أشد وطأة، فالمنشآت التي حصلت على تشميل مشروعاتها اعتمدت على المصارف في تمويل بنائها، وعندما رغبت في الاستثمار قبل عام ونصف عام، وضعت في دراسة الجدوى القرض كعامل أساس للبناء والفرش والعمل، وبالتالي إن توقف القروض يلحق بها ضرراً جسيماً، قد يؤدي إلى توقفها عن العمل.
وأكد مواطنون سوريون أن توقف القروض أثر على مشروعاتهم الصغيرة، سواء في اقتناء منزل أو سيارة، أو حتى البدء بمشروع صغير يساعدهم في مورد إضافي لدخلهم المحدود أصلاً، ورجوا الحكومة الجديدة إعادة النظر بقرارها.
الإعلامي المتخصص في الشؤون النقدية، مرشد النايف، كانت له رؤية وسطية، وقال: «لا أرى هناك مانعاً في استمرار القروض مع التشدد في الضمانات كي تستفيد المصارف من الودائع الهائلة وتوظفها وتستطيع بذلك الاستمرار وتحقيق الأرباح من دون المجازفة بحدود رساميل المصارف».
لكن لعل نقص السيولة وتراجع الإيداعات كانا سببين رئيسيين في اتخاذ قرار وقف القروض المصرفية؛ فالسوريون يذكرون تماماً ما قاله وزير المال الأسبق، محمد الحسين، عن أن الإيداعات في المصارف الحكومية قد زادت قليلاً عن تريليون ليرة سورية. بيد أن الأزمة أرخت بتبعاتها على ثقة المودع بالمصارف والليرة السورية في آن، ما دفعه إلى سحب مدخراته وتحويلها إلى معادن ثمينة أو عملات عالمية، أو حتى نقلها إلى مصارف خارجية، ما انعكس على موجودات المصارف التي حارت بين تناقص السيولة والربحية، فآثرت السيولة وضحت بالأرباح؛ لأن التمادي أو المجازفة في منح القروض في حالات استثنائية كتلك التي تمرّ فيها سوريا، قد يزيد من خطر نقص السيولة ويصل إلى حدود إعلان الإفلاس والإغلاق. وهذا ما أكّده أكرم حوراني، أستاذ النقد في جامعة دمشق، بقوله: «لا بد من التوازن بين السيولة والربحية؛ فغلبة إحداها على الأخرى قد تصيب المصرف لخلل قد يأتي على وجوده» .
أما عن تبعات قرار وقف القروض على العقارات، فيمكن تلخيصه من خلال الصورة الآتية؛ فقد شهدت سوريا نهضة عمرانية في السنوات العشر الأخيرة، ما أدى إلى زيادة أسعار متر العقار بنسبة زادت على 500 في المئة، نتيجة تهافت الرساميل إلى هذا القطاع المضمون العائد وذي دورة رأس المال السريع، وبسبب قلة المطارح الاستثمارية، عادت الانتكاسة الآن إلى هذا القطاع. المصرف العقاري الذي آثر منح القروض رغم توجس سواه من المصارف العامة والخاصة، ها هو يستجيب للقرار الحكومي، ما أدى إلى جمود قطاع العقارات وتوقف معظمها نتيجة الأزمة وإحجام المصارف عن منح قروض، لينشط بالتالي الإيجار، وخصوصاً في المناطق التي لا تزال توصف بالهادئة أو الآمنة، بعد موجة النزوح من مدن عدة كحمص وإدلب وحماة.
لكن في الوقت نفسه، نشطت الحكومة لتكون بديلاً للاستثمارات الخاصة في هذا القطاع، حيث أعلنت وزارة الإسكان السورية عن مساكن عدة بغرض الاكتتاب، وهو ما رآه مراقبون مسعى من الحكومة لجمع السيولة وإيجاد فرص للعاطلين من العمل، لأن قطاع العقارات يوصف بالمحرض ويشغّل أكثر من 500 مهنة.
إلا أنه بالمحصلة، وحسب تعبير مدير المصرف الصناعي، أنيس معراوي، فإن إيقاف كل أنواع القروض والإبقاء على اعتماد الكفالات، إنما يعكس ازدياد عوامل المجهول في المعادلة الاقتصادية في سوريا، الذي تجلى في ارتفاع مستويات السحوبات والتشدّد، ومن ثم توقف الإقراض، وما لذلك من آثار سلبية على ربحية المصارف ووتيرة النشاط الاقتصادي العام، بكل ما يتفرع عنه، بداية من حجم السيولة في السوق السورية مروراً بزيادة نسبة البطالة وتوقف المشروعات والنشاطات، وصولاً إلى تراجع المبيعات وربما الناتج والإنتاج في المنشآت الصناعية والتجارية السورية.