توصف الهند بأنها أكبر ديموقراطية في العالم. وضمن المعيار العددي ذاته، ستكون مصر منذ اليوم أكبر ديموقراطية في الشرق الأوسط. ليس سهلاً على اسرائيل التسليم بهذا الواقع المنافي تماماً لاستثمارها، منذ ابتداعها مقولة إنها «الديموقراطية الوحيدة في المنطقة». قبل وصوله للحكم، سطر بنيامين نتنياهو كتابه «تحت الشمس». كل مضمونه يقول إن ما يمنع السلام مع العرب، هو أن أنظمتهم ليست ديموقراطية كإسرائيل. ولطالما اعتبر نتنياهو كتابه الآنف بأنه درة تفكيره. اليوم يقول أنصاره إن كتابه ينطبق عليه المثل البريطاني القائل: «احذر تحقق أمنياتك».
بالأساس كان الإخوان المسلمون قد قطعوا عهداً للإدارة الأميركية، قبل أيام من سقوط حسني مبارك، بأنهم لن يحصلوا على غالبية نيابية في أول انتخابات تشريعية وأنهم لن ينافسوا على رئاسة الجمهورية. كان هذا التعهد رداً على زيارة لوزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، قام بها على وجه السرعة آنذاك لأميركا، طارحاً على أعلى مسؤوليها، خطاً أحمر إسرائيلياً متمثلاً في «ضمانة استقرار معاهدة كامب ديفيد، قبل انهيار النظام».
كان التقدير المشترك في كل من تل أبيب وواشنطن، أن ما يحصل في مصر يتضمن بداخله انقلاباً للجيش على حسني مبارك. وجرى، أثناء «خيانة (الرئيس الأميركي باراك) أوباما لمبارك»، حسب التوصيف الإسرائيلي، إعادة فحص لمسرح القوى في مصر. الجيش هو القوة الاجتماعية والوطنية المركزية. وهو يحتكر نحو ٣٠ في المئة من الاقتصاد المصري. وتم رد ما يحصل إلى أن مبارك تمرد على الجهاز الخفي داخل الجيش، الذي أتي به أصلاً لرئاسة الجمهورية. أراد توريث نجله جمال بالتحالف مع رجال الأعمال التابعين للنظام، بينما اعتبر الجيش أن هذا تجاوز من مبارك، وأن الجيش هو المخول تحديد اسم خلف الرئيس. وهناك تقليد موروث داخل ما يسمى اصطلاحاً «الجهاز» (الحلقة الضيقة الصلبة الممسكة بالجيش)، وهو أنه يختار رئيس الجمهورية من بيئة سلاح الجو، الموضوع تحت رقابة مشددة من قبله. حسني مبارك، كان طياراً في هذا السلاح، ثم مسؤولاً للمشتريات العسكرية فيه، ثم قائداً لسلاح الجو، فنائباً لرئيس الجمهورية، وبعد ذلك رئيساً. لقد تم تصميم خطواته نحو الرئاسة بإتقان. وفي كل مراحل تنقله من موقع لموقع داخل سلاح الجو، ظل تحت ناظري الجهاز. ومؤخراً تم اختيار أحمد شفيق كآخر رئيس حكومة لعهد مبارك في ظل العصيان الشعبي ضده، ومن ثم كمرشح جدي لرئاسة الجمهورية. وحصل الأخير على المنصب الحكومي والترشيح، انطلاقاً من ذات الاعتبار، وهو انتماؤه لبيئة سلاح الطيران، الذي يحرص الجهاز على اختيار رؤساء الجمهورية منه.
لقد توجس الجيش في أكثر من محطة من امكانية أن تكون واشنطن عقدت من وراء ظهره صفقة مع الإخوان لتسليمهم السلطة في مصر. هذا التوجس كان قد نشأ حتى قبل بدء الثورة المصرية، فقبل أشهر من اندلاعها، طلب الرئيس الأميركي أن يكون الإخوان المسلمون جزءاً من القوى التي توجه إليهم الدعوة إلى حضور خطابه الشهير في جامعة القاهرة. إثر ذلك، شاع في أوساط قيادة الجيش أن نظرية الدبلوماسي الأميركي السابق ريتشارد هولبروك، عن المصالحة مع الأعداء، التي بموجبها يحاور أوباما طالبان في أفغانستان، أصبح لها تطبيقات سرية من قبل الخارجية الأميركية مع إخوان مصر بغطاء من أوباما. وتم استذكار أن كلينتون تقول عن أفكار هولبروك بأنها «أسلوب حياة» وليست مجرد نظرية سياسية.
في إحدى المرات، بعد الثورة، قرر الجيش تحذير واشنطن من أنه إذا صحت هذه التكهنات حول صفقة بينها وبين الإخوان، فإنه سيلجأ لاستخدام خيارات أخرى، غير الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة الأميركية. وترجم هذا التحذير من خلال السماح لسفينة عسكرية إيرانية، خلال نهاية السنة الماضية، بعبور قناة السويس. كان فحوى الرسالة - حسب مصدر في الجيش المصري - هو «أننا لسنا من دون خيارات أخرى».
لكن اشتباك الارادات الصامتة بين إدارة أوباما وقيادة الجهاز الخفي في الجيش المصري انتهى إلى لي ذراع الأخير. في أوائل هذا العام، ساد داخل قيادة الجهاز، بحسب ضابط كبير مقرب منه، التقدير التالي للموقف حول الإخوان ومستقبل النظام السياسي في مصر:
أولاً: لن يكون بالإمكان منع الاخوان المسلمين من الوصول إلى السلطة، فهم القوة المنظمة الوحيدة في مصر، ولديهم قاعدة انتخابية تعد بالملايين، فيما القوى الأخرى مشتتة.
ثانياً: أيقن الجهاز أن الحوار بين الإخوان وواشنطن قديم، يعود إلى ما قبل الثورة بأعوام، وأنه من الصعوبة تفكيك قنواته.
ثالثاً: لدى الإخوان خطة محكمة لمستقبل مصر تحت قيادتهم، تقوم على نظرية «الوصول إلى الحكم، والحفاظ على الحكم». وتفاصيلها توصي بمحاكاة تجربة «أردوغان - داوود أوغلو» في تركيا. رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، اهتم بالحفاظ على قاعدته الاجتماعية، وتوسيعها خلال حكمه من خلال إنجاز مشاريع اقتصادية ذات مردود على مستوى تحسين المعيشة لفئات واسعة من الشعب التركي. وبنظر إخوان مصر، هذه تجربة تحتذى من قبلهم في مصر للحفاظ على السلطة بعد الوصول إليها. أما وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، فتحدث عن «صفر مشاكل» مع الإقليم والمجتمع الدولي. وهذا وفر لعهود حزب التنمية والعدالة في الحكم، دعماً دولياً. الأمر نفسه سيقوم به «الإخوان» في مصر على مستوى علاقات مصر الإقليمية والدولية في عهدهم. الحفاظ على كامب ديفيد، طمأنة الغرب، وأيضاً إيران.
الجيش كان له نظرية أخرى بخصوص كيفية إدارة علاقات مصر الإقليمية والدولية، بعد مبارك، فيما لو استمر هو ممسكاً برئاسة الجمهورية. طرح في كواليسه شعار «الحفاظ على كامب ديفيد، ولكن ليس بدون ثمن». ففي عهد مبارك، كانت مصر تبيع الغاز لإسرائيل بسعر سياسي رخيص، وهذا أمر يجب أن يتوقف. كما أن المعاهدة لم يطبق شقها الثاني الخاص بإلحاق الفلسطينيين بالمفاوضات. وهذا جزء من المعاهدة ستطالب مصر إسرائيل بتنفيذه.
ليس واضحاً ما إذا كان الإخوان سينفذون هم أيضاً رؤية الجيش لكيفية «الاحتفاظ باتفاق كامب ديفيد». لكن، أقله في اجتماع مغلق عقد قبل نحو شهر في تونس، ضم قوى سياسية فاعلة في المنطقة، من ضمنها إخوان مصر، أعلن ممثلهم أنه في المرحلة الراهنة، كامب ديفيد ليست أولوية في حساباتهم المركزة حالياً على وصولهم إلى السلطة.
يقول تقدير الموقف أيضاً، في نقطته الرابعة، إن الإخوان لن يستفزوا المجتمع المصري، وسيطبقون فتوى تقول إنهم غير مسؤولين، شرعاً، عما هو قائم من المحظورات (كبيع الخمور في المطاعم والفنادق، ...)، بل سيكتفون بعدم اقدام مؤسساتهم على بيعها أو المتاجرة بها. وأيضاً لن يمسوا مؤسسات السياحة، طالما أنهم ليسوا منشئيها. والفتوى نفسها ستُعتمد بخصوص التعاطي مع الدول الغربية المانحة لمصر. فهم لن يمنعوا ثمراتها عن العباد، ولكنهم كإخوان سيحاذروا الإفادة منها. باختصار، سيمارس الإخوان عملية تكيف مع الواقع المصري، وبالمقابل سيتدرجون في اضفاء طابعهم عليه.
ولا يخشى الإخوان من أن المجلس العسكري ضيق صلاحيات رئاسة الجمهورية. فالإعلان الدستوري الذي تم إبرامه في لحظة توازنات معينة للقوى، يمكن تعديله حينما تتغير هذه التوازنات في لحظة تالية، ولا سيما أن اللحظات المقبلة من تاريخ مصر تشير إلى أنها ستكون في صالح الإخوان الصاعد نجمهم السياسي، والمدربين على أهمية تطبيق استراتجية «الوصول الى السلطة والحافظ عليها» عبر سياسة اقتصادية خاصة، توجد فرقاً ملموساً في تحسين مستوى معيشة طبقات واسعة من الشعب المصري.
يدرك الإخوان في هذه الجزئية، أن محاكاة التجربة الأردوغانية ليست خياراً علمياً، نظراً للفرق بين ظرف تركيا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي كان موجوداً لحظة وصول حزب إخوان تركيا وظرف مصر الراهن. لكن محاكاته ستكون في اتباع تطبيقات ما أمكن من نظرية «عدم تفويت فرصة الوصول إلى الحكم»، وهذا ما فعله إخوان مصر، والتخطيط للبقاء فيه، عبر سياسة اقتصادية شعبية، وعبر استنساخ تطبيقات «صفر مشاكل» على المستويين الدولي والإقليمي، وحتى تجاه الشرائح الاجتماعية الأخرى في مصر التي لديها نظرة مختلفة عنهم للحياة.



تدخّل دولي حسم انتصار مرسي


حاول المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي (الصورة) جعل تظهير نتيجة جولة الإعادة من الانتخابات النتيجة تمر في اختبار إمكانية جذب قناعة دولية في اللحظة الأخيرة، بعدم إيصال الإخوان الى الحكم، أو على الأقل، استدراج عروض داخلية وخارجية لإنشاء صفقة على طراز تركيا قبل أردوغان. وقوامها أن تكون «مصر من فوق (القرار السياسي) علمانية بيد العسكر، ومن تحت (المجتمع) إسلامية بيد الإخوان». نظرياً يبدو أن الجيش حصل على جزء من هذه التسوية، لكن مفاعيلها بحسب رؤية أعمق، لن تستمر طويلاً، ولا سيما أن الإخوان سيصرون على استعادتهم للأغلبية في البرلمان، وعلى الغاء الإعلان الدستوري المكمل. وواضح أن الاتجاه الدولي الغربي يؤيد هذا التوجه، بعدما كشف دبلوماسي غربي أن الغرب مارس عبر مجلس الأمن ضغوطاً على المجلس العسكري للكف عن ابطاء اعلان نتائج الانتخابات.