يترقب الصيّاد مفلح أبو ريالة طلوع الفجر على مكان سكنه في مخيم الشاطئ، غرب غزة. هُنا يبدأ الرجل الثلاثيني رحلة البحث اليومية عن لقمة العيش، متفائلاً بخلاف عادته، وحاملاً مزيداً من (غالونات) الوقود ليملأ قاربه، لأن «الرحلة طويلة اليوم بعدما زيدت مساحة الصيد إلى تسعة أميال بحرية». ويقول إنها «أول مرة منذ عشر سنوات».
المركب قديم ومثقلٌ بمعدات الصيد، وبالهموم أيضاً، لكنهم يعتمدون عليه في مهمة توفير لقمة العيش لثلاثة عشر شخصاً، هم العاملون على متنه من أقرباء مالكه مفلح. هذه ليست المشكلة الوحيدة، بل «على البحر أن يجود بالمزيد من الأسماك». يشرح الصيّاد أن خمسة وسبعين فاهاً تتنظر «الرزقة»، هؤلاء هم مجموع أفراد عائلات الصيادين على متن القارب.
ينطلق صوت المحرك مجلجلاً، ومع ذلك يمكنك أن تسمع دندنة الصيادين السُمر: «شدو الهمة/ الهمة قوية». ينزعون المرسى من الصخر، ويستمرون في الغناء: «يا بحرية/ هيلا هيلا».
هذا القارب ليس وحيداً. يشاركه في رحلته أكثر من 200 قارب، شدت رحالها إلى عرض البحر. ومع أنك لست صياداً مثلهم، فإن الفرح الذي يسري في أوصالهم ينتقل إليك. هناك ما يدعو إلى التفاؤل، ويمكن تحديد ذلك بمجرد أن يعلو صوت أحمد (18 عاماً): «أول مرة من عشر سنوات حصار، بنتجاوز حاجز الـ6 ميل».
وكانت إسرائيل قد قررت زيادة مساحة الصيد حتى تسعة أميال بحرية قبل أيام، في جملة من التسهيلات من جانب واحد، تقدمها متى تشاء وتنزعها فجأة ودون توضيح.
لكن الصيّاد مرزوق له نظرة مغايرة لما فرح به الشاب أحمد. يستذكر صاحب الوجه المجعد طفولته، قائلاً إن «أيام العزّ راحت». يقول لـ«الأخبار» إنه قبل توقيع اتفاقية أوسلو وحتى ما بعدها بمدة معينة، «كنت أسرح مع أبويا في البحر، ونوصل 20 ميل... ما كان علينا حسيب ولا رقيب، والسمك، خير الله باسط... أي والله يوميتي ما ببدلها بيومية دكتور».
لم يختر مفلح ومرزوق، ولا أحمد، العمل في البحر. هم ورثوه كحال أربعة آلاف صياد آخرين، عن آبائهم وأجدادهم. يمكننا القول إنهم ولدوا ووجدوا أنفسهم في البحر، وتربت مهنتهم معهم وشبت مثلهم. لكن لماذا يحبونه؟ يجيب مفلح: «مين قلّك إنو بنحبه أصلاً». يتابع: «البحر يا خال حلو، لكن مش للجعان، البحر حلو لاثنين عشاق، واحد وحبيبته هاربين من عيون الناس، لكن احنا: بنترجى في ربّه من الصبح يجود علينا بكم كيلو سمك».
يمضي الوقت وتبقى الشمس، ثم تمضي الشمس وتبقى وجوه الصيادين «شاحبة كالقمر». في قمرة قيادة مركب «الشنشولة» (مركب متوسط الحجم يعمل على متنه 15 صياداً)، يضع مفلح يده على خده، معيداً تدوين حساباته من جديد، فقد استدان في الأمس 400 دولار أميركي ليملأ مركبه بالوقود. الهّم كبير، لأنه يتعين عليه أن يصيد أكثر من 50 كيلوغراما من السمك، ليسدد دينه ويغطي أجرة العاملين، ويعود إلى أولاده العشرة بقوت يومهم. مع ذلك يبتسم الرجل قائلاً: «علقنا الأمل على المساحة الجديدة – 9 أميال ــ واعتمادنا على الله، احنا بنخرج للمجهول والرزق بيد الله».
يجتاز المركب حاجز الأميال الستة، وفيما يشد مرزوق شباك الصيد، يعاودنا بحديثه، مستذكراً الأيام الخوالي: «كنا في سنة 1995 ميسورين، أجرة الصياد اليومي قريب الـ150$، ومالكو المراكب الكبيرة هم أغنياء البلد... كنا نصدّر سمك ع الضفة وإسرائيل». يضحك مردفاً: «كان الناس يقولوا عنّا أهل السعودية، من كثر ما معنا فلوس».
ما يقوله رزق ومفلح تؤكده الإحصاءات الرسميّة، فقد كانت تصل كمية الإنتاج السنوي من الأسماك في السابق حتى عام 2006 إلى أربعة آلاف طن سنوياً، وكانت الكميّة كافية لتسد احتياجات السوق المحلية إضافة إلى أسواق الضفة المحتلة، كما كان فائضها يُصدر إلى أسواق فلسطين المحتلة، وفق منسق لجان الصيادين في «اتحاد لجان العمل الزراعي»، زكريا بكر.
النقطة الفارقة التي انقلب بعدها مستوى الإنتاج بدأت منذ أسر الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط عام 2007. منذ ذلك الحين، لم يتخطّ الإنتاج السنوي حدود ألف والخمسمئة طن، مع فارق النوعية والجودة أيضاً.
إلى جانب الصياد مفلح، جلس زميله السبعيني أبو أسامة مقداد، يمخر عباب البحر بـ«لنشه» الصغير. لا يرافق الحاج النشيط سوى ولده عنتر الذي تولى القيادة. وريثما ينهي والده موّالاً يغنّيه، يجهز عنتر الطُعم لصنارة الصيد. يعرف الحاج، البحر، أكثر من أبنائه التسعة. يضحك بحسرة وهو يقول: «مخدوعين بالـ9 ميل يا صحافيين، وجايين تصوروا أطنان السمك؟ الخواجا ــ يعني الاحتلال ــ ضحك عليكم زي دايماً». يكمل: «الخواجا أعطانا صحراء البحر، خير البحر موجود في عمق 9 ميل فأكثر، لكن من جهة ساحل غزة المدينة»، مضيفا: «المساحة إلى سمحولنا فيها من وادي غزة لدير البلح كلها (صخر شوباني)».
منذ أسر شاليط لم يتخطّ الإنتاج السنوي للقطاع 1500 طن

يلفت حديث الحاج إلى ضرورة العودة لتدقيق تفاصيل الاتفاق، الذي أبرمته وزارة الزراعة الفلسطينية مع إسرائيل، ويسمح للصيادين بالدخول بعمق تسعة أميال بحرية من السواحل المقابلة لوادي غزة حتى الحدود البحرية مع مصر جنوب القطاع، فيما تبقى مساحة الصيد من بيت لاهيا أقصى شمال غزة إلى الوادي على حالها، أي بين 3- 6 أميال.
المنسق زكريا بكر يوضح، في حديث لـ«الأخبار»، أن المناطق البحرية الخصبة هي في أقصى الشمال، أي بيت لاهيا، مضيفاً: «الاحتلال لا يسمح بالصيد هناك سوى لثلاثة أميال... يليها بحر مدينة غزة في عمق يزيد على سبعة أميال ونصف ميل حيث السلسلة الصخرية والمطاين التي توفر بيئة مثالية لتكاثر الأسماك وعيشها، وفي هذه المنطقة يسمح بستة أميال فقط»، علماً أن المساحة التي تسبقها هي «صحراء جرداء» لا حياة سمكيّة فيها، سوى لـ«البزرة» (السردين صغير الحجم).
تعاني هذه المنطقة أيضاً التلوث بمياه الصرف الصحي، الذي يقتل الحياة البحرية. يتابع بكر: «بالنسبة إلى المنطقة الممتدة من وادي غزة حتى دير البلح، فهي غير صالحة للصيد بسبب كثافة الكتل الصخرية التي تعيق الإبحار وتعلق فيها شباك الصيادين، وهي الآن تمثل نسبة 40% من المساحة المسموح بها بالصيد حتى تسعة أميال».
أمّا المنطقة الباقية من المناطق الجديدة، فهي المحاذية لمدينة خانيونس (جنوباً) حتى الحدود البحرية مع مصر. وتؤدي كثافة الصيد من الجانب المصري، الذي يستخدم معدات صيد متطورة عن غزة، إلى استنزاف الثروة السمكية بصورة متواصلة.
تتوارى الشمس خلف البحر، ربما حان وقت العشاء. والسمك يعرف طريقه إلى المقلاة بالنسبة إلى أبناء البحر، «كول استاذ شو بدك عزومة؟». يطوف مركب مفلح في المساحة الجديدة باحثاً عن الأسماك التي أبقتها مئتا مركب وصلت المكان برفقتنا منذ الفجر. هُنا يبدو هدير مولد الكهرباء العملاق وصوت محرك المركب مزعجاً أكثر مما مضى، لأن العودة ستكون بأكياس خالية.
بدأ مفلح وإخوانه يخرجون شباكهم ويفرغونها في حاويات الثلج تمهيداً لرحلة العودة. نوارس البحر تحوم في الجو المحيط بحثاً عن فضلات الصيد. فجأة، تعبس وجوه الحاضرين، فكميات الأسماك التي جمعوها خلال اليوم، ليست بحجم التفاؤل الذي حملوه في بداية رحلتهم.
تبدأ مرحلة الوزن والحسابات، يلهج مفلح بالحمد أيضاً، برغم أن سعر كمية الأسماك التي صادوها، لم يتجاوز 300 دولار، فيما بلغت تكلفة الرحلة، بين الوقود والزيوت والعمال والطعام، أكثر من 700. إذاً، لم تنجح الـ«9 ميل» في الاختبار، وصدق الحاج مقداد في كلامه.
طائر النورس يحلق إلى عشه وحده، غير آبه بزيادة هذه الأميال أو نقصانها. أما البحر، فخيب آمال بحارته، لكن مفلح لم ييأس، لأن «موسم سمك السريدة قريب، وقد يعطف علينا البحر بعد الله».



«نقابة الصيادين» تنفي لقاءها «البحرية الإسرائيلية»

نفى رئيس نقابة الصيادين، نزار عياش، ما تداولته بعض وسائل الإعلام المحلية حول لقاء جمع ممثلين عن نقابة الصيادين و«قيادة البحرية الإسرائيلية» في ميناء أسدود لبحث توسيع مساحة الصيد. وأكد عياش (الصورة) في تصريح صحافي، أنه لم تحدث مفاوضات في منتصف شهر آذار الماضي بين ممثلين عن نقابته والاحتلال، نافياً وجود لقاءات سابقة شبيهة. كما لفت إلى استمرار «الاعتداءات التي تقوم بها بحرية الاحتلال يومياً ضد الصيادين وملاحقتهم ومصادرة قواربهم وإطلاق النار عليهم».
وفي الثالث والعشرين من الشهر الماضي، أعادت إسرائيل 59 محركاً لقوارب صيادي غزة كانت قد صادرتها في أوقات سابقة. وقال رئيس «الهيئة العامة للمعابر والحدود» في السلطة الفلسطينية، نظمي مهنا، في ذلك الوقت، إنه وصل إلى «معبر كرم أبو سالم التجاري 59 محركاً ستجري عملية إعادتها إلى أصحابها عبر القنوات الرسمية»، من دون أن يوضح الجانب الإسرائيلي أو الفلسطيني الرسمي أسباب هذه الخطوة.
(الأخبار)