«عادت تدمر أخيراً، ثم القريتين قبل أيام. وتفرّق الأهل والجيران كلّ في مكان، ما بين حمص والرقة والأراضي التركية، ومناطق أُخرى مجهولة»، يقول أبو منصور، الرجل الخمسيني. عادت المدينة بالنسبة إليه، رغم أنها لا تزال فارغة من أهلها. يقول إنه يتحيّن فرصة العودة السريعة إلى بيته وذكرياته. «لو كانت بيوتنا قد سوّيت بالأرض، ننشئ خياماً ونقيم فيها. كلّنا عائدون».
أكثر ما يتناقله التدمريون، الخارجون من ظلمات «دولة الخلافة»، من حكايات مؤثرة عاشوها خلال الشهور العشرة الاخيرة، هو خبر إعدام عالم الآثار السوري خالد الأسعد الذي رفض الخروج من تدمر، مع دخول عناصر «داعش» إلى المدينة. ينقلون عنه قوله: «ما عاد في بالعمر شي يستاهل الطلعة»، بحسب شهود على عملية الإعدام التي جرت بتهمة «تمثيل النظام في المؤتمرات العالمية، وإدارة متحف الأصنام في تدمر الأثرية». غير أن السبب الحقيقي للاغتيال يعود إلى رفض الأسعد دورة «الاستتابة» التي فرضها المسلحون على الأهالي والموظفين الحكوميين، إضافة إلى رفضه الإدلاء بأية معلومات تدلّ على أماكن محتملة لدفن آثار وكنوز تاريخية، ما أدى إلى اعتقاله 28 يوماً ثم إعدامه.
حالياً يجري البحث عن جثمان الاسعد من أجل دفنه بشكل لائق. ويقول ابنه محمد إنّ مكان الجثمان معروف، لكنهم لم يصلوا بعد إلى من يدلّهم إليه: «بعض من أهالي تدمر أخفوا الجثمان، عن طريق دفنه في مكان مجهول، غير أننا فقدنا الاتصال معهم، بعد هرب الأهالي مع احتدام المعارك» علماً أن جثمان الأسعد دفن في مكان، ورأسه في مكان آخر. لذا لا يفوت الأسعد الابن الثناء على جهود بعض الأهالي في مواساة العائلة، إذ أتوا إليه بنظارة والده المحطمة، تعبيراً عن أسفهم وحزنهم على القامة العلمية للشهيد.
ويذكر الأسعد الابن، الذي يعمل رئيساً للديوان في متحف تدمر الأثري، أنه زار تدمر في الأيام الأخيرة مرات عدة، بهدف حصر الأضرار والمبادرة إلى طلب تشكيل لجان من العاصمة لتقييم الآثار وجردها، وإغلاق المتحف سريعاً، للاستفادة من الوقت في خلق ترتيبات تتعلق بترميمه، وبقية المعالم الأثرية الأُخرى. ويلفت الرجل إلى الفرق الذي لاحظه مع العودة إلى المدينة بعد تحريرها، قائلاً: «كل شي فرق عليي... كنت مفكر لاقي والدي ووالدتي وبيتي. لكني لم أجد أحداً. 75 ألف نسمة ما عادوا موجودين في المدينة، بانتظار وحدات الهندسة لتفكيك الألغام التي خلّفها داعش وراءه في كل مكان، للعودة سريعاً إلى المدينة، فور تقديم المحافظة الخدمات الضرورية لعودة الأهالي».
يجري البحث عن جثمان العالم الأسعد لدفنه بطريقة لائقة

حكايات عديدة خرجت إلى النور مع وصول عدد من الأهالي لتفقد بيوتهم وأرزاقهم. معظمهم موظفون حكوميون اضطروا إلى المغادرة، عقب عمليات بحث عناصر «داعش» عنهم، لإلحاقهم بدورات استتابة لـ«العودة عن ردّتهم عن الدين».
تختصر نسرين الحسن حكاية سقوط المدينة قبل عام بجملة وحيدة: «أمضينا صلاة العصر مع الدولة السورية، وأمسينا مع صلاة المغرب تحت حكم تنظيم داعش». المدرّسة الثلاثينية، ابنة المدينة العتيقة، لم تستوعب الصدمة في تلك الليلة، ولاسيما أنها كانت مطلوبة لمسلّحي التنظيم، باعتبارها موظفة حكومية تعمل في مجال المصالحة الوطنية، أيضاً، داخل المدينة، خلال سنوات الحرب. أربعون يوماً أمضتها نسرين في مدينتها، بعد سقوطها، متخفية بين بيت وآخر، إلى أن قطعوا رأس القاضية غادة جمعة، عندها أعلنت والدة نسرين عدم قدرتها على تحمّل انتظار وصول الدور إلى ابنتها.
«لم يركزوا كثيراً على البحث عني. كان لديهم مطلوبون أكثر أهمية، وعلى رأس القائمة عالم الآثار الأسعد»، تقول نسرين، قبل أن تستعيد الليالي «السوداء» التي أمضتها في المدينة: «حاولوا استمالة الناس عبر المال والمساعدات. دخلوا إلى مبنى كانت تتمركز داخله وحدات الهندسة لتفكيك العبوات الناسفة، وصادروا التموين منها ووزّعوه على الأهالي، إضافة إلى مساعدات الهلال الأحمر». تتابع: «كسبوا تأييد الناس بوسائل الترغيب والترهيب. واستخدمت ساحات المدينة لعرض أفلام عن تنظيم داعش و(انتصاراته)، عبر شاشات عرض ضخمة أمام أطفال المدينة لغسل أدمغتهم».
نسرين هربت من المدينة في الأسبوع الثاني من شهر رمضان الماضي، مرتدية النقاب. تروي: «صليت الصبح وطلعت بالباص... ونجوتُ بأعجوبة، إذ لم ينتبهوا إليّ». أما أقاربها، الذين ساعدوها على التخفي، فذهب كلّ منهم إلى وجهة مختلفة عن الأُخرى، هرباً من أيام الحرب الأخيرة، قبيل تحرير المدينة على يد الجيش. تقول السيدة التدمرية: «خرج عمي إلى الرقة، قبل يومين من دخول الجيش، ثم تابع باتجاه المنصورة. أما العجائز، فقد أخرجهم عناصر التنظيم إلى السخنة، فيما كانت الرقة وجهة نساء المدينة. ناس صارت بالرقة وناس بتركيا وناس قدرت توصل على حمص». وتختصر نسرين مأساة تدمر بالقول: «تدمر انطمرت 7 مرات، بفعل الزلازل، وهلأ إذا حفروا بيلاقو آثار... بس الإنسان اللي راح أهم من الاحجار».
كلام يؤيده فداء، مهندس اتصالات، مقيم في حمص، منذ ما قبل الحرب. وعلى الرغم من عدم إقامته في المدينة التاريخية أبداً، غير أنه عاش مأساة المدينة مع أقاربه وجيرانهم، وتابع نزوح بعضهم وقدّم خدمات لبعضهم الآخر. لم يعش الشاب التدمري المأساة بشكل مباشر، إنما تابع عن كثب أحوال أهله ومصائرهم، بانتظار السلام المقبل ليعود إلى مسقط رأسه. والدته تتواصل مع أقاربها بشكل يومي للاطمئنان الى أحوالهم، وتتبع أخبارهم، بانتظار لحظة العودة، علّها تزور مدينتها القديمة مجدداً.