في روايته "أشواك"، يعبّر سيد قطب (1906-1966) عن خيبة الأمل التي تسبّبها قصة حب فاشلة عاشها البطل مح حبيبته بسبب التقاليد الاجتماعية المحافظة. صدرت رواية "أشواك" سنة 1947 وقد أهداها قطب إلى حبيبته كاتبا: "إلى التي خاضت معي في الأشواك فدميت ودميت وشقيت ثم سارت في طريق، وسرت في طريق: جريحين بعد المعركة. لا نفسها إلى قرار ولا نفسي إلى استقرار". كان هذا قبل أن يتحول سيد قطب ويصبح مفكر الاخوان المسلمين الأبرز الذي سيدفع حياته ثمن مواقفه ويجري اعدامه شنقا زمن حكم الرئيس جمال عبد الناصر.
كيف تحولت شكوى سيد قطب من لوعة الحب وأشواكه إلى رفض عارم وجارف لكل سلطة غير اسلامية؟ لا شكّ أن هذا السؤال يعكس الأزمة التي يعيشها العالم العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم حول مفاهيم الهوية والقومية والحداثة، التي دخلت بقوة مع توسع الهيمنة الغربية على المستويات الاقتصادية والعسكرية والفكرية. وقد تنكر قطب لاحقا لروايته "أشواك"، إذ عدّها غير اسلامية تنتمي إلى فترة حياته "الجاهلية" التي امتدت لما يقارب الأربعين سنة كما وصف نفسه في كتابه "معالم في الطريق" الذي استعملته المحكمة لادانته بسبب تحريضه الشباب على التمرد والعمل لاقامة الشريعة وحاكمية الله.
سافر قطب سنة 1948 إلى الولايات المتحدة في بعثة كممثل عن وزارة التربية بغية دراسة مناهج التعليم الحديثة لكنه عاد وقد تغير بشكل كبير إذ هاله واقع الحياة في أميركا التي وصفها في كتاب له كمجتمع يعاني ثلاث آفات رئيسية: المادية، العنصرية والانفلات الجنسي. لقد رأى قطب أن الدول الصناعية تفوقت من حيث التقدم التكنولوجي لكنها تنتج دون قيم روحية واخلاقية حيث أضحت الحرية مجرد سعي وراء الملذات والرغبات الجامحة. وعقب عودته إلى مصر تقرب قطب شيئا فشيئا من حركة الاخوان المسلمين حتى توج انقلابه الفكري مع انضمامه رسميا إلى صفوف الاخوان المسلمين سنة 1953 إذ اعتبر الاخوان بوصفهم القوة الوحيدة التي تستطيع الوقوف بوجه تمدد الحضارة الغربية في العالم الاسلامي.
ومن أشواك الحضارة الغربية إلى أشواك ثورة الضباط الاحرار التي أنهت النظام الملكي في مصر سنة 1952. فقد أيدت حركة الاخوان الثورة في أول الأمر لا بل جرى تعيين سيد قطب نفسه مستشارا للمجلس العسكري وأصبح بالتالي المدني الوحيد الذي حضر اجتماعات المجلس. سرعان ما نشأ الخلاف بين قادة الانقلاب والاخوان اذ رفض المجلس العسكري مطالب هؤلاء بتطبيق الشريعة كمنع بيع الكحول واغلاق الحانات. كذلك رفض المجلس مطالب الاخوان بالانتقال الى نظام حكم دستوري مدني واجراء استفتاء شعبي حول تطبيق الشريعة. وهكذا بعد تصاعد حدة الخلاف حُلت حركة الاخوان المسلمين وزج بسيد قطب في الحبس بعد تعرضه للتعذيب، وبقي في الحبس حتى سنة 1964 حين أُفرج عنه بناء على طلب من الرئيس العراقي عبد السلام عارف، لكن ما لبث ان اعتُقل من جديد بعد ثمانية أشهر بتهمة الارهاب والإعداد لانقلاب مسلح فأُدين وأُعدم في 29 اب 1966.
تأثر سيد قطب خلال فترة اعتقاله بكتابات أبي الأعلى المودودي الذي نظّر لمفهوم حاكمية الله وجاهلية المجتمعات البشرية وكان أول من استعمل هذه المفاهيم بشكل سياسي وضد مسلمين اخرين. وقد سار قطب على النهج نفسه فأصّل لفكرة الحاكمية في كتابه الضخم "في ظلال القرآن"، حيث كتب ان "إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور".
فكل مجتمع لا يقوم على تطبيق شرع الله هو مجتمع جاهلي يفتقر للشرعية لأن فكرة التوحيد تفرض أن سلطة التشريع، وتحديد الحلال والحرام، يعودان حصرا لله. فقبول سلطة بشرية أكانت لانسان مفرد أو لمجموعة معينة أو لايديولوجيا محددة كالقومية أو الشيوعية شرك يؤدي بالمجتمع إلى الكفر والسقوط في الجاهلية. لذلك كان لا بد من "إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر، وتحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة أو قهرها" فلا بد من "الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، لتحرير الإنسان في الأرض، كل الأرض".
وهكذا نفهم كيف تجري عملية تكفير دول ومجتمعات بأكملها. فمعيار الحاكمية ليس تركيبة الشعب السكانية، بل تطبيق شرع الله. فالبلاد التي لا تطبق فيها الشريعة هي دار حرب حتى لو كانت الغالبية الساحقة من سكانها مسلمة مؤمنة. فالحكومة الاسلامية هي حكم الشرع، والدولة الاسلامية لا تعرف حدودا جغرافية، بل هي تمتد لتشمل كل الاراضي الخاضعة لحاكمية الله. من هنا كانت الدعوة ضرورية في مرحلة أولى لشرح حقيقة الدين لمن ضل من البشر ومن ثم لا بد من الجهاد والقوة لمواجهة الحكومات التي تقوم على مفاهيم جاهلية. فالثورة الاسلامية واجب لتدمير العراقيل التي يفرضها الانسان بين المؤمن والله.
هذه هي وصفة سيد قطب لتحرير الانسان من أشواك الجاهلية. فمن أشواك الحب، أنهى قطب حياته محاربا أشواك الطواغيت وحكم الكفار في مجتمع جاهلي لكي يتحول هو نفسه إلى شوكة الاخوان المسلمين الفكرية الأهم. صحيح أن بعض الورد لا شوك له، لكن أيضا بعض الشوك لا ورد له.
*كاتب وأستاذ جامعي