«الإخوان المسلمون» أكلتهم ثورة «الربيع» | في صيف عام 2013، عُزل «الإخوان المسلمون» عن الحكم في مصر، فيما كانت «حركة النهضة» في تونس تواجه معارضة شديدة وأزمة سياسية كادت أن تطيح حكومة علي العريض (أحد قادتها) خلال مدة قياسية، قبل أن تؤدي في فترة لاحقة إلى تنازل «النهضة» عن الحكومة.اليوم، بعد أقل من ثلاثة أعوام على ذلك الصيف، الذي أشعل البلدين، يمكن الوقوف على المشهدين التاليين: في مصر، يواصل حكام القاهرة الجدد الإمساك بمفاصل الحياة السياسية (لحدود خنقها)، بالتوازي مع مواصلة المعركة على «جماعة الإخوان المسلمين» على كافة الصعد. أما في تونس، فقد انقلب المشهد، لتبدو الحياة السياسية مخدّرة نتيجة للائتلاف الناشئ قبل أكثر من عام بين القطبين، «نداء تونس» و"حركة النهضة».
هناك معطى مشترك يمكن أن يمثّل ركيزة للانطلاق بعملية مقاربة واقعي «الإخوان» و»النهضة» خلال المرحلة الراهنة: لقد فتح عام 2011 بالنسبة إليهما على زمن جديد، سمح لهما بأن يصلا إلى السلطة وإلى الحكم في بلديهما. بيد أنّ إخفاق تجربة «الإخوان» وما تبع ذلك من صراع مفتوح مع «الدولة»، يضطر الجماعة إلى إقرار استراتيجيات عمل جديدة، بصورة لم تعتدها في تاريخها. بالتزامن، فإنّ نجاح عملية استقرار «النهضة» في السلطة، يدفعها إلى تسريع التحوّل «من كونها حزبا (حركة) إحتجاجيا(ة) إلى كونها حزب دولة»، وفق تعبير زعيمها، راشد الغنوشي، قبل شهر.

«الإخوان»: ولادة ثالثة؟

يقدّم الباحث في مركز «كارنيغي»، جورج فهمي، في حديث لـ«الأخبار»، مقارنة بين كيفية تعامل كل من «النهضة» و«الإخوان» مع «الواقع السياسي الجديد بعد الربيع العربي». وهو بينما يشير إلى «براغماتية النهضة»، يلفت إلى «سعي (الاخوان) إلى محاولة بناء تحالف إسلامي». وهو الأمر الذي سيدفع، وفقا له، إلى «أزمة بين التيارين الإسلامي والمدني»، وخصوصاً في ظل إصرار «الإخوان» على «إستراتيجيات التصعيد في مواجهة الخصوم السياسيين».
تنظر «الجماعة إلى الدولة على أنها الجائزة التي تحلم بتملكها والاستحواذ عليها»، وفق عبارة المؤرخ المصري، خالد فهمي، في مقابلة سابقة أجراها مع «الأخبار»، لكن في عام 2013، فإنّ خروجها من السلطة وتشتت مراكز قواها وقياداتها، بفعل المعركة المفتوحة عليهم على جبهات العمل السياسي، والإجتماعي، كما الدعوي، وضع الجماعة أمام أزمة يبدو أنها لم تشهد مثيلاً لها.
قد تندرج المعركة المفتوحة مع «الإخوان» راهناً في سياق الصراع الأكبر المستمر بين مختلف أنظمة الحكم المصرية و«الجماعة» منذ تأسيسها، على الرغم من أنّ هذا الصراع كان يشهد فترات مهادنة، كما حصل مثلاً خلال عقد السبعينيات في عهد أنور السادات، حين عرف «الإخوان» ولادة ثانية، تُرجمت بالتوسع في العمل السياسي والاجتماعي.
لكن أمام الأزمة التي تشهدها «الجماعة»، يبقى السؤال الرئيسي: أي مستقبل ينتظرها؟ عملياً، هناك قراءات للمرحلة الراهنة تذهب باتجاه القول بأنّ «الانقلاب العسكري وتجربة الحكم تعززان من الاتجاه الداعي إلى الفصل بين دور الجماعة كمؤسسة اجتماعية والممارسة السياسية التنافسية»، وذلك وفق ورقة بحثية قدمها الباحث المصري والناشط الشبابي في «الإخوان»، عمار فايد، ضمن سلسلة «إعادة النظر في الحركات الإسلامية» التي ينظمها معهد «بروكينغز». ويصل فايد في ورقته إلى حد اعتبار أنّ «الانقلاب العسكري وضع (الجماعة) أمام استحقاقات يمكن أن تغيّر وجهها في السنوات المقبلة، وهو ما يفتح الباب لديناميات داخل المنظمة الكبيرة قد تفضي لإعادة تعريف دورها السياسي والاجتماعي والديني».
يوضح عمار فايد، في حديثه لـ«الأخبار»، أنّ «قرار الجماعة منقسم بين جبهتين: الأولى تمثل القيادة التقليدية (القائم بأعمال المرشد الدكتور محمود عزت والأمين العام للجماعة محمود حسين) من ناحية. ومن ناحية أخرى، اللجنة الإدارية العليا التي انتخبت في تشرين الأول/أكتوبر 2015 ثم قرر الدكتور محمود عزت ايقاف عدد من أعضائها، لكن غالبية اللجنة رفضت القرار وما زالت مستمرة في العمل ويتبعها حوالي 40% من المكاتب الإدارية في الجماعة».
وفيما يشدد فايد، المقيم في اسطنبول، على أنّ «المشهد شديد التغير وما زال قيد التشكل»، إلا أنه يستدرك قائلاً: «بصورة عامة، ما من آمال كبيرة على التوافق بين الجبهتين، ويبدو أن الجماعة تتجه لأكبر انقسام في تاريخها»، مؤكداً في سياق حديثه أنّ «الجماعة بالفعل بحاجة إلى انطلاقة جديدة».

«النهضة»: لسنا «إخواناً»

«أعتقد أنه قد حان الوقت للاعتراف بأنّ المقاربة التقليدية التي تربط مجمل الأحزاب السياسية المعاصرة التي ترتكز على القيم الإسلامية بجماعة الإخوان المسلمين (على أنها التنظيم الأم)، قد ظهرت محدوديتها»؛ عبارة ذُكرت في مداخلة ضمن سلسلة «إعادة النظر في الحركات الإسلامية» للنائب عن «حركة النهضة»، سيدة الونيسي، في شهر شباط الماضي.
يتجه «الإخوان» لأكبر انقسام في تاريخهم وهم بحاجة إلى انطلاقة جديدة

يضاف ذلك التصريح إلى نفي قادة رفيعين في «النهضة»، وخصوصاً في الآونة الأخيرة، «أي صلة سياسيّة أو تنظيميّة بحركة الإخوان المسلمين». وهو الأمر الذي يكرره الشيخ راشد الغنوشي بنفسه، وإن حاول الاستدراك بأنّ «هناك علاقات فكرية تربطنا مع بقية الطيف الإسلامي في المنطقة».
إنّ ما يجري في تونس، يُعدّ مثيراً، إذ تريد «النهضة» التي تأثرت انطلاقتها بمرحلة الولادة الثانية لـ»الإخوان» نهاية السبعينيات، والتي كانت ضمن «التنظيم العالمي للإخوان»، تريد خلع عباءة «الإخوان». الأمر الذي يصفه البعض بـ «تونسة الحركة» للانسجام مع الواقع الجديد ومع دورها المستجد في قلب السلطة التونسية، وللتأقلم مع الواقع الإقليمي المتغيّر. هو أمر من المرجّح أن يحسم بشأنه المؤتمر العام المقبل للحركة بعد نحو شهر، وتكريسه بالرغم من بعض المعارضات الداخلية، إلا أنّ ما يعدّ مهماً في هذا السياق، ليس احتمال بقائها من عدمه تحت تلك العباءة، بل إنّ أكثر الأمور إثارة يتمثل بمراقبة قدرة حركات الإسلام السياسي الناشئ في القرن العشرين على التبدّل.

1967 إسلامي؟

تعيد مديرة مكتب منظمة «انترناسيونال الرت» في تونس، ألفة لملوم، في حديثها لـ«الأخبار»، رسم إطار عام لمقاربة واقع «النهضة». تقول: «دأب خصومها في تونس منذ الثمانينيات على تصنيفها تنظيما إخوانياً»، موضحة أنّ «في ذلك بعض من القصور في الرؤية، إذ إنّ الجذع التاريخي المشترك لكل الحركات الإسلامية السنية التي شهدت صعودا في أعقاب هزيمة 1967 وتراجع المد القومي في المنطقة العربية، لا يمكن أن يحجب حقيقة أن هذه الحركات غير متجانسة»، إلا أنّ الباحثة التونسية تؤكد أنّ تلك الحركات «وعلى غرار باقي الفاعلين السياسيين، يحكم تطورها ليس فقط مرجعيتها العقائدية، بل كذلك البيئة التي تنشأ فيها وتتفاعل معها، فتؤثر فيها وتتأثر بها، ضمن موازين قوى عامة ليست هي اللاعب الوحيد ضمنها».
هذا تأكيد إضافي على التبدلات المحتملة ضمن «النهضة»، لكن كيف تترجم تجربة هذه الحركة وتجربة «الإخوان» في الأعوام الأخيرة في سياق قراءة تاريخ الحركات الإسلامية؟ هنا، يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة، أشرف الشريف، في حديثه إلى «الأخبار»، إنّ «البعض يرى أن الفترة الحالية بالنسبة للإسلاميين شبيهة بفترة ما بعد 1967 بالنسبة للتيار القومي واليساري في العالم العربي، لكني من جهتي أرى أن من المبكر إصدار مثل هذه الأحكام لعدة اعتبارات». وفي سياق شرح مطوّل لتلك الاعتبارات، يشير إلى التفاوت في تجارب «إدماج الإسلام السياسي في العملية الديموقراطية»، إضافة إلى عدم وجود «بدائل سياسية وأيديولوجية جذابة تملأ الفراغ الذي تركه الإسلاميون». وفي إحدى النقاط، يلفت إلى أنّ «الإسلام السياسي عبر أربعين عاما من عمر ظاهرة الصحوة الاسلامية خلق جسما ديموغرافيا واجتماعيا ضخما، وامتدادات ثقافية وقيمية مهمة... ومن شبه المستحيل أن يختفي كل هذا تحت القمع أو بسبب فشل تجارب بارزة له في الحكم». ويرجح شريف هنا بأن «تظهر أشكال جديدة للتعبير السياسي عن هذه الأفكار والموجودات الاجتماعية»، مؤكداً في السياق أنّ «مصر هنا هي الرقم الصعب لأن المستقبل فيها غامض جدا بالنسبة للتيار الإسلامي» عامة.




فرنسوا بورغا: «النهضة» لم تخفق

هناك توجه لدى بعض الأكاديميين في الغرب للإشادة بتجربة «النهضة» في تونس. قد يمكن القول إنّ الأكاديمي الفرنسي، فرنسوا بورغا، هو أحد هؤلاء. سألته «الأخبار» إن كان يعتقد بوجود اختلاف جوهري بين الخلفية الفكرية لكل من «إخوان» مصر و«النهضة»، يساهم بشرح مسارهما المتباين. فكان جوابه التالي:
ينتمي الإخوان المسلمون المصريون، و«النهضة»، بشكل غير قابل للنقاش إلى عائلة فكرية واحدة. وهذه العائلة الفكرية تتبع نهجاً واحداً تجاه الإرث الذي يشكله الفكر السياسي الموصوف بالغربي، قائما على عملية استعادة أو استملاك انتقائية، بدلاً من رد الفعل الرافض عشوائياً، الذي يتصّف به الجناح «السلفي» للتيار الإسلامي، لكنّ هذا لا يمنع وجود اختلافات ذات دلالات، ولا سيما في مجال الإستراتيجية.
لقد مكّن الربيع العربي لكليهما التحقق من أهمية قاعدتيهما الانتخابية. ولكنه مكنهما أكثر من تقدير المسافة المهمة التي تفصل ــ في مناخ إقليمي ودولي عدائي في غالبيته ــ بين الحصول على أغلبية انتخابية والتمكن من (إدارة) جهاز الدولة.
قد يمكننا القول إن النهضة «استفادت» من سقوط الإخوان المصريين، وعرفت كيف تتبنى بصورة استباقية، موقفاً واقعياً تراجعياً، وهو الذي يلومها عليه جزء من قواعدها، لكن في ما يخصني، أرفض اعتباره إخفاقاً.