أن تكون فلسطينياً بجزءٍ منه هو أن تصبح باحثاً عن أي ذكرى تربط مخيلتك بالجنة، والجنة اصطلاحاً عند طفلٍ فلسطيني في مواليد الثمانينيات هي فلسطين، التي تحولت من جحيم النكبة إلى برزخ النضال، ونهايةً إلى خيال الجنة. كثيراً ما كنت أربط بين الجنة وفلسطين بشكلٍ لاواعٍ. فأحاديث الكبار الخارجة من جرح النكبة غالباً ما ترافقها خيالات العاشق، فيصبح ما كان قسوة الحبيب هو حنين العاشق للمعشوق ودار صفائه. فلا يتوقف الحديث عن البيارات والأراضي الشاسعة الخضراء التي تكاد تلِفُّ أسطورة كل القرى، وكلما ارتقى شهيداً قيل إنه إلى الجنة التي وشمتها جدتي في مخيلتي على صورة فلسطين.
تشبُّ قليلاً، وتوقك للعودة لا يزال محفوفاً بالقصص. نعم إنها القصص التي تأخذك إلى كل شبرٍ حرثه جدك، إلى جرة الماء التي تكاد تستشعر ملمسها وتشرب ماءها فتروي عطشك، إلى خيط التبغ المنشور أمام ساحة الدار ورائحته الحاضرة في ذاكرتك من دون أي افتعال.
هذه هي الذاكرة المحسوسة بكل ما تعتنقه الكلمة من معنى. فيصبح ما كان جذراً هناك ساقاً هنا، ويعود خيالكَ لينبته زهراً هناك، وقد يقال هذا كلام الشاعر، وأن أعذب الشعر أكذبه، لأن الحقيقة التي يرفضها العقل ويخونها القلب بكل اعتزاز أنه لم يبقَ جذرٌ هناك ولا ساقٌ هنا، وليس للأزهار أن تنبت فوق كل هذا الوهم.
ولأنني مولعٌ بالقصص عن فلسطين، كنت أريد أن أسمعها دائماً بما يشحذ مخيلتي نحو العودة الأبدية إلى هذا الرحم الجميل. هكذا كنت كلما قابلتُ شيخاً فلسطينياً، ينتابني إحساس بأنني سوف أغوص بحكاياتٍ أشبه بخراريف الجدات. كنت أنظر في وجوههم فأرى فلسطينَ تتساقط من حواجبهم وعرق جبينهم وخطوط العمر في وجناتهم. أشتهي تنهداتهم وشرودهم في البعيد، فهذا بحد ذاته كان حكاية اعتناق أو حبلاً لا ينقطع مع الماضي القريب. فالقلب دائماً يتوق إلى تراب هذه الجنة، هذا الطين الذي تعبَ العلماء بتفسيره، ولكن الفلسطيني لا يحتاج إلى معادلة كيميائية ليفقه كنهه، فقط القلب على التراب، وسوف تسمع النبض في كل جزء على أرض فلسطين التاريخية.
في إحدى زياراتي لشيخٍ فلسطيني عام 2008، كان قد تجاوز المئة عام وهو يعيش في مدينة "عدرا" في الريف الدمشقي، كنتُ على يقين أنني سوف أسمع منه ما لم يقله فلسطينيٌ آخر. فهذا العمر الطويل لا بد أن يحمل معه فلسطين السبية بكل آلامها وحلاوتها، وكنت متأكداً أنني سأجدُ الخلاصة لشيءٍ ما يخص روحَ هذه البلاد، والجنة في مخيلتي لا تزال حاضرة بقوة.
ما إن فتح لي الباب حتى شعرت بأني كنتُ أطرق باباً من أبوابها، وعلمتُ أن مشواري الطويل إلى بيته يستحق العناء. فالكنوز التي سوف أغرف منها من ذاكرة هذا الشيخ لا تضاهيها كنوز الأرض قاطبةً.
رحبَ بي وأدخلني إلى غرفة الجلوس التي لم تكن تبدو كغرفة من غرف بيوت المخيم ولا حتى كغرفةِ جدي الذي يعيش في حي جوبر الدمشقي. فالغرفة كانت متكلفة جداً وكأنها هاربة من أحد بيوت أحياء دمشق الراقية، والشيخ الذي لا يزال معتداً بمشيته جلس جلسة الأمراء على كرسيه وهو يعلم مسبقاً أنني أتيت لكي أسجلَ ذاكرته الشفهية، ثم ما لبثتُ أن مارستُ عليه مراهقتي الإعلامية لكي أستفز ذاكرته، وأنا معبأ بالأفكار المسبقة عن صورةِ الفجر في فلسطين وموسم الحصاد، والحواكير، وأشجار التين والزيتون، وقصص البطولات ضد المستعمر البريطاني... الخ
صمت "الختيار" أبو عادل قليلاً، وهذا كان بداية الغيث الذي كنت أعلم أنه سينهارُ أمطاراً بعد قليل، ثم قال لي فجأة: "حكيتلو لأبو جورج شريكي بمعرض السيارات، إنو حيفا رايحة تسكط، بس ما صدكنيش، كلتلو يا أبو جورج خلينا نوخذ العشرين سيارة ع"راس الناكورة" قبل ما يفوتو اليهود يوخذوهم، فحكالي بكرة بيوخذهم الجيش العربي هناك، وأصر إنو يضلهم بحيفا، وفي الآخر سكطت حيفا يا عمي وخسرنا العشرين سيارة".
ثم ما لبث أبو عادل يتحدث عن أنواع السيارات وأسعارها وأنا أحاول جاهداً مشحوذاً بأفكاري المسبقة أن أخلق لديه الحنين نحو أشياء لا يبدو أنه اختبرها يوماً ما، وكأنني كنت أرفض أي كلامٍ لا يشير إلى الأرض بمعنى التراب وأحواله من زرعٍ ومواسم حصاد وأغنيات الفلاحين، ولكن ضاعت جهودي سدىً وأيقنت تمام اليقين أن أبو عادل لم يحزنه سقوط حيفا بقدرِ ما أحزنه خسارة العشرين سيارة، وأدركت ردة فعل جدة صديقي عندما أخبرتها أنني من عكا، حينها أشاحت بوجهها عني وتمتمت "آه إنتو ولاد المدن".
أحاول أن أبحثَ عن مبررٍ لنفسي في سوقِ هذه الحادثة فأعجز. ما عساني أريدُ أن أقول؟... ربما أردت أن أهمس في نفسي أن الحنين هو مهنة الفقراء والجنة خيالهم والعودة صَلاتهم الأبدية وحدهم، أو ربما أردت التحدثَ عن قسوةِ المدنِ وتشييئها لمشاعرِ أبنائها حتى بعد فقدان أوطانهم, أو ربما غير ذلك... فأنا إلى الآن لا أزال خائفاً أن أعترف بأن عودتي من عند الشيخ أبو عادل قلبت ذاكرتي التي جمعتها عن فلسطين رأساً على عقب، وأن تلك الجنة التي كانت تزعمها جدتي لم تكن سوى جنتها التي رعتها في قلبها وخيالها يوماً بعد يوم حتى صارت جنةً غنَّاء تُغري بها كل المؤمنين من أمثالي كي يعودوا إليها مرة ثانية.
فليكن إذاً... ولتذهب سيارات أبو عادل إلى الجحيم.