لعل الأبرز في انعقاد قمة بغداد، إلى جانب مكانها، ينحصر في توقيتها الذي يتزامن مع نقطة تحول إقليمية، تجاوزت المراكمة الكميّة التي ميّزت العام الماضي، إلى تغيير نوعي حسم الجدل في مجموعة من الأمور، لعل أهمها الهزيمة الأميركية في المنطقة، والنتائج الظاهرة للربيع العربي التي جاءت بعيدة عن الأحلام بولادة حكومات ليبرالية ديموقراطية تبشر بقيام دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية.
وهناك الصعود الكبير للتيار الاخواني والسلفي، والحال التي انتهت إليها الأزمات ـــ الثورات في الأماكن المضطربة (تونس ومصر وليبيا واليمن) والذي يبدو واضحاً أنه لا يرضي الولايات المتحدة لكنه في الوقت نفسه لا يخيفها في ظل وجود صمّامات أمان في كل من هذه البقاع (الجيش على سبيل المثال في مصر)، وجهود لا تهدأ لتكريس النسخة الإخوانية القريبة من النموذج التركي الذي لا يتعارض مع مصالح العم سام في المنطقة.
ولا يمكن في هذا السياق تجاهل سقوط الرهانات على أي تغيير في الموقف الروسي الجديد من وضع المنطقة. موقف بات واضحاً أنه يقوم على أسس مبدئية تأخذ في الاعتبار في المقام الأول مصالح الأمن القومي الروسي. يضاف إلى ذلك سقوط الرهانات على إمكانية إخراج الرئيس بشار الأسد من السلطة، في أعقاب فشل كل الخيارات السابقة من هجوم دعائي وحراك ميداني سلمي ومسلّح فعقوبات اقتصادية ومالية، والحسم في استبعاد خياري تسليح المعارضة وتوجيه ضربة عسكرية. وجاءت جولة الرئيس الاسد في بابا عمرو أمس كأفضل مؤشر على فشل معركة اطاحته عن السلطة.
بل بات واضحاً، من خلال التوافق الروسي الأميركي على مقترحات المبعوث الأممي العربي كوفي أنان، أن هذه الأخيرة باتت تشكل الإطار المقبول دولياً لحل في سوريا، في أوضح إشارة إلى البدء بالبحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه للأطراف المعنية. مخرج، بحسب مقترحات أنان، لا يلحظ تنحّي الأسد، ويتضمن تكليف الحكومة السورية بقيادة الحل السياسي وفرض التهدئة ميدانياً. صحيح أن بيان مجلس الأمن الداعم لمقترحات أنان وما تلاه من حراك على أكثر من مستوى إنما يعبّر عن التوجه الأميركي الحالي حيال الأزمة السورية، التي يبدو جلياً أنها انتقلت من إطارها الميداني إلى الإطار السياسي الذي لن يخلو من الضغوط، مع التأكيد على أن افق هذا الحراك السياسي يقود الى تسوية لا الى انقلاب. وهناك أيضاً لغة جديدة من جانب الكويت والامارات العربية المتحدة تضاف إلى الانفتاح العماني التقليدي. ويمكن ادراج تصريحات حاكم امارة الشارقة وقائد شرطة دبي ضد تيار الاخوان المسلمين في هذا السياق. بينما يفسر كثيرون الحراك الكويتي بأنه رسالة اميركية.
مصادر خليجية وثيقة الاطلاع تؤكد أن العلاقة الشخصية بين القيادة السورية والقيادتين الكويتية والإماراتية في حالة جيدة جداً، وبنحو خاص مع ابن أمير الكويت، الشيخ ناصر، ومع الرئيس الإماراتي خليفة بن زايد وحاكم دبي محمد بن راشد، خلافاً للعلاقة مع ولي عهد ابو ظبي محمد بن زايد الذي توضح المصادر أنه يحلم بأن يكون شبيهاً بالأمير السعودي الشهير بندر بن سلطان ويؤدي دور رئيس الوزراء القطري الحالي حمد بن جاسم. وتضيف أن هاتين الدولتين أبلغتا القيادة السورية منذ بداية الأزمة أنهما ضد توجهات السعودية وقطر وتصرفاتهما لكنهما لا تستطيعان القيام بأي شيء حالياً، نظراً للضغوط التي تتعرضان لها وللحالة السلفية الموجودة داخل الكويت، مع تعهدات بأن تتخذا في الوقت المناسب الموقف الملائم من الأزمة السورية. وتتابع هذه المصادر «يبدو أن هذا الوقت قد حان»، مشيرة إلى «انفتاح إماراتي كويتي على سوريا يعبّر عن التغير في المزاج الأميركي من هذا الملف». علماً بأن المتداول منذ أشهر يشير إلى رأي خليجي قوي كان يقول منذ البداية بأن موجة الاحتجاجات العربية يجب أن تقف في سوريا وإلا اجتاحت دول الخليج كلها.
حتى الحراك التركي لا يخرج عن هذا الإطار. طهران تتحدث عن «صراخ تركي في الوقت الضائع» بانتظار ما ستسفر عنه زيارة رجب طيب اردوغان اليوم لإيران ولقاؤه المرشد علي خامنئي، للتباحث في وضع المنطقة ككل، علماً بأن قواعد الاشتباك الإيرانية مع تركيا تقضي بتجنب الصدام تحت أي ظرف لقضايا كثيرة ليست من بينها سوريا، وتتلخص في الموقع الجيواستراتيجي للبلدين، حيث تعد تركيا مدخل إيران لأوروبا، وإيران مدخل تركيا إلى آسيا الوسطى. أما دمشق فترى في الصراخ التركي محاولة للضغط على سوريا طمعاً بمكاسب من نوع ما، بعدما شعرت أنقرة بأن الولايات المتحدة وأوروبا قد خذلتاها. اللافت في أن الكل يجمع على أن الملف السوري خرج من يد السعودية وقطر، على قاعدة «خسرتما المعركة ولن نتحمل نتائج خسارتكما». بل يكثر الحديث في الغرف المغلقة عن أن الدور الخليجي لم يعد مرغوباً به بعد النتائج المخيبة التي حققها، وأن الملف السوري انتقل إلى الدائرة الأميركية - الروسية - الصينية - الإيرانية.
من هنا يظهر كيف خرجت السعودية من اللعبة وسلمت بالهزيمة الأميركية في المنطقة، لتدخل في اتون مصائبها الداخلية، وأهمها أزمة السلطة، حيث ولي العهد الأمير نايف يعيش وضعاً صحياً متفاقماً، في ظل خلافات حادة تعصف بأبناء عبد العزيز، وخاصة الأمير سلمان الذي يبدو أكثر امتعاضاً مما يجري، نظراً لقناعة آخذة في التبلور أن الملك عبد الله، وفي حال وفاة نايف، سيضع حداً لنفوذ الأمراء السديريين ويعزز نفوذ أمراء من مثل متعب بن عبد العزيز على حساب محمد بن نايف. كل ذلك في ظل صراع على السلطة بين 12 ألف أمير من سلالة عبد العزيز، يتوزعون على 3 أجيال، بعضهم من أبناء الملوك ممن يحتل قطاعات واسعة في الدولة، التي باتت مهددة باحتراب على مستوى العائلة المالكة ربما يتهدد وحدة التراب الوطني.
وأيضاً هناك قطر، التي يجري الحديث عن تغييرات مرتقبة فيها، وأن عملية نقل السلطة تجري على نار هادئة من الأمير حمد، إلى ولي العهد الأمير تميم.
حال هاتين الدولتين تستعجل على ما يبدو الانتهاء من الأزمة السورية، مع إدراك بأن بقاء الأسد على رأس السلطة سيتطلب تسوية ستكلّف الكثير سياسياً ومادياً ومعنوياً.
«أخشى ما أخشاه أن أضطر لأن أبوس لحية بشار مجدداً». جملة ينقلها سفير قطري في عاصمة إقليمية مؤثرة عن الشيخ حمد بن جاسم ربما تختصر الكثير مما يجري، وذلك رداً على سؤال السفير الكويتي في العاصمة نفسها عما ستفعله قطر مع تزايد المؤشرات إلى بقاء الأسد في السلطة. جملة ربما تعكسها مقابلة «الشيخ» على «الجزيرة» اليوم، ويرجح أن يعبّر عنها أداء عرب الاعتدال في قمة بغداد.



مشروع قرار حول سوريا

أفادت وكالة «فرانس برس» بأن مشروع القرار المتعلق بسوريا المطروح على قمة بغداد، يدعو الحكومة السورية إلى «الوقف الفوري لكافة أعمال العنف والقتل وحماية المدنيين السوريين وضمان حرية التظاهرات السلمية لتحقيق مطالب الشعب السوري في الإصلاح والتغيير المنشود». كذلك يدعو «الحكومة السورية وكافة أطياف المعارضة إلى التعامل الإيجابي مع المبعوث المشترك (كوفي أنان) ببدء حوار وطني جاد يقوم على خطة الحل التي طرحتها الجامعة وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة». ويدعو مجلس الأمن الدولي إلى «التحرك لاستصدار قرار يستند إلى المبادرة العربية وقرارات الجامعة ويقضي بالوقف السريع والشامل لكافة أعمال العنف في سوريا». وهو يطالب «المعارضة السورية بكل أطيافها بتوحيد صفوفها وإعداد مرئياتها من أجل الدخول في حوار جدي يقود إلى تحقيق الحياة الديموقراطية»، ويعتبر «مجزرة بابا عمرو المقترفة من الأجهزة الأمنية والعسكرية السورية ضد المدنيين جريمة ترقى إلى الجرائم ضد الإنسانية».