اختلف الصيادون على جلد الطريدة قبل صيدها. يصدق هذا المثل على حال الخلافات التي تسود الساحة السياسية العراقية منذ أن أُعلن استكمال الاستعدادات اللوجستية والأمنية لعقد القمة العربية الخميس والجمعة المقبلين، بعد انتظار طويل. صحيح أن هناك إشارات عديدة تؤكد أن قطار قمة بغداد قد انطلق بثقة أكبر هذه المرة، وخصوصاً بعد الدفع الذي تلقاه رئيس الحكومة نوري المالكي إثر زيارته الكويت، لكنّ أحداً ليس بوسعه الجزم بأن هذا القطار سيصل إلى محطته الأخيرة. مصادر سياسية مطلعة في بغداد قالت إن واشنطن ضغطت على أصدقائها الخليجيين، وخصوصاً على السعودية لعدم عرقلة عقد القمة، وتمنت عليهم المشاركة فيها على أعلى المستويات. ومع أنّ المسؤول الأول في الدبلوماسية العراقية، وزير الخارجية هوشيار زيباري أعلن تلقيه موافقات من جميع الدول العربية على المشاركة، وهو ما أيّده وإن على نحو غير حاسم الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، فإن دولاً عربية رئيسية وكبرى لم تعلن بعد مشاركتها، إذ اقتصرت التأكيدات والموافقات الرسمية على دول قليلة، كاليمن والكويت وجزر القمر وجيبوتي. يدرك الحكم العراقي، القائم على المحاصصة الطائفية، أن انعقاد القمة في بغداد ونجاحها يعنيان، ضمن ما يعنيانه، وضع حدّ للعزلة التي فُرِضت عليه منذ الغزو. هذه الحقيقة يدركها أيضاً خصوم حكام بغداد داخل «العملية السياسية» وخارجها. لذلك، فإنّ هؤلاء يبذلون كل جهد ممكن، بحسب محللين، لعرقلة أو على الأقل للتشويش على القمة العربية. من هؤلاء مثلاً، «هيئة علماء المسلمين في العراق» بزعامة الشيخ حارث الضاري، التي دعت، في بيان لها، الملوك والرؤساء العرب، إلى عدم المشاركة في قمة بغداد، لأن المشاركة تعني «الإجهاز على آخر أمل في الحصول على عون عربي للخلوص من الواقع المرير أسوة بالشعوب الأخرى».
محللون أجانب وعراقيون اتفقوا على فكرة عامة مفادها أن العراق النفطي والمستقر والخارج من تخلف حكم المحاصصة نحو ديموقراطية حقيقية، لن يكون بحاجة إلى دعم سياسي أو اقتصادي من هذه الدولة العربية أو تلك. على العكس من ذلك، يضيف بعضهم، فإن أغلب الدول العربية بحاجة ماسة إلى عراق بتلك المواصفات، ولما يقدمه من فرص واسعة للاستثمارات وتشغيل اليد العاملة العربية في مشاريع الإعمار العراقية الضخمة. أما الدول النفطية الخليجية، فلديها حساباتها الخاصة، التي يعتقد البعض أنها لا تخلو من خلفيات دينية طائفية، وتلك الحسابات هي ما يجعل انفتاحها على الحكم العراقي الحالي بمذاق العلقم. غير أنّ العلاقات الخاصة التي تربط هذه الدول بواشنطن، التي تعدّها أغلب حكومات الإقليم العرّاب الرسمي للحكم العراقي، ستجعل تجرع كأس العلقم أمراً لا بد منه، إذا أرادت تفادي غضب «السيد في واشنطن».
منغّصات كثيرة تحيط بموضوع قمة بغداد، وتشوش على إمكان انعقادها. من ذلك مثلاً، التظاهرات التي دعا إليها التيار الصدري تضامناً مع الانتفاضة في البحرين، والتي حاولت حكومة المالكي أن تنأى بنفسها عنها، لكن تأثيراتها السلبية، وخصوصاً على احتمال مشاركة دول الخليج في الاستحقاق العربي الأهم، لن تكون قليلة رغم ما قيل عن ضغوط أميركية على قادة هذه الدول لحضور القمة.
وفي السياق، جاءت تصريحات السفير الإيراني حسن دنائي عن أن «الإجراءات لعقد مؤتمر القمة العربية في بغداد سارية والقمة ستعقد في موعدها المحدد»، لتصب زيتاً على نار الخلافات والأزمات والمناكفات السياسية، ولتثير ردود فعل قوية من الرافضين العراقيين وغير العراقيين للتدخل الإيراني في الشؤون العراقية الداخلية. بعض السياسيين، حتى من أصدقاء إيران، وممن لا يعرف عنهم عداء لها، تساءلوا عن الحكمة من هذا التصريح، وعن السرِّ في توقيته، فيما رأى آخرون أنّ المقصود منه هو إيصال رسالة إلى جهة معينة، مفادها أن لإيران الكلمة العليا في العراق، وأن وجودها فيه وتأثيرها عليه لا يُستهان بهما. أمرٌ سيرتد سلباً على حكومة بغداد عربياً قبل غيرها، مثلما يعتقد مراقبون مستقلون.
وقد حاول زيباري التخفيف من تأثيرات تصريح السفير الإيراني على نحو غير مباشر، بإعلانه أن قمة بغداد ستكون عربية صرف من حيث الحضور، ما يعني أن لا إيران ولا تركيا ستحضرها، مشدداً على وجود انفتاح عراقي على السعودية ودول الخليج كنتيجة لانفتاح هذه الدول على العراق.
في مناخات الانفتاح هذه، جاءت المقابلة اللافتة والمطولة التي أجرتها صحيفة «عكاظ» السعودية مع المالكي. مواضيع عديدة جرى التطرق إليها، وأكثر ما لفت انتباه المراقبين، كان التأكيدات المتكررة لرئيس الوزراء على هوية العراق العربية. فالعراق، على حد تعبير المالكي، «بلد عربي وسكانه عرب بنسبة تفوق 85 في المئة»، حتى إنه ذكّر بأنه شخصياً من قبيلة بني مالك، وجذوره حجازية ويمنية. المالكي أثار سخط القادة الأكراد حين قال إنهم حصلوا في العراق على ما لم يحصلوا عليه في أي دولة مجاورة يعيشون فيها، وأن انفصالهم عن العراق سيكون مضراً بهم كثيراً. وقد شبّه أحد القادة الأكراد تصريحات المالكي بـ «ما كنا نسمعه من أساتذة القانون والسياسيين البعثيين في عهد صدام حسين»، لكنّ أحداً لم يعلق على تأكيدات رئيس الحكومة على الهوية العربية للعراق العربية، وهو ما اعتاد بعض القادة الأكراد فعله بذريعة الدفاع عن «التعددية المجتمعية».
إلى جانب هذه المنغصات والعراقيل، يضيف مراقبون تهديدات قائمة «العراقية» بزعامة إياد علاوي باللجوء إلى القمة العربية لمناقشة المشاكل والأزمات العراقية الداخلية. وقد لوّحت «العراقية» بهذا الخيار أكثر من مرة، لكن معظم المحللين لا يعتقدون بأن هناك مردوداً سياسياً كبيراً سيتحقق حتى لو نجحت قائمة علاوي في طرح شكاواها عبر الإعلام أو اللقاءات المباشرة مع الزعماء العرب. ومع ذلك، فقد سُجِّلَ بعض النشاط المفاجئ على جبهة «الاجتماع أو المؤتمر الوطني» المزمع عقده لحلّ أزمة اتهام نائب الرئيس طارق الهامشي بالوقوف خلف جرائم إرهابية. أما أغرب ما صدر من نواب «العراقية» حول القمة العربية، فكان التصريح المنسوب إلى النائب أحمد العلواني، الذي حذّر من أن «محاولة النظام السوري اغتيال عدد من الرؤساء العرب خلال قمة بغداد هي مسألة متوقعة، ولا سيما أن هذا النظام يعاني اليوم أزمة حقيقية». تصريح العلواني رفضه عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، النائب عن «التحالف الكردستاني» حسن جهاد، الذي أشار إلى أنّ «الاستعدادات الأمنية تؤكد قدرة أجهزتنا على كشف أية محاولة قبل وقوعها»، لكن ما يحدث من خروق أمنية وعمليات تفجير واغتيال مستمرة، لا تؤكد تماماً تطمينات النائب جهاد، لذلك يبقى باب احتمال حدوث الأسوأ وارداً.
يُقال كل ذلك عن الأمور الإجرائية والشكلية الخاصة بالقمة المرتقبة، فيما يغيب أيّ نقاش جدي بشأن نتائجها المرتجاة، ومضامين ما ستتمخض عنه من برامج أو بيانات قد تحمل شيئاً من نكهة «الربيع العربي».