القاهرة | الإسكندرية | كانت محاولة فتاة مسيحية الانتحار، بعد سماعها خبر وفاة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، شنودة الثالث، أول من أمس، عن عمر يناهز 89 عاماً، دليلاً على خشية من «مستقبل مظلم»، يخشى جزء كبير من أقباط مصر أن يكون بانتظارهم بعد وفاة مرجعهم الديني. إذاً، رحل البابا الرقم 117 في تاريخ الكنيسة المصرية، بعد أربعة عقود قضاها على رأس الكنيسة، تاركاً حالة من القلق بين أبناء الطائفة التي يعيش جزء منها خوفاً متزايداً بنتيجة صعود التيار الإسلامي، وسيطرته على غالبية البرلمان.
وقد أعلن «المجمع المقدس»، الهيئة العليا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في اجتماعه برئاسة الأنبا باخوميوس، كبير الأساقفة من حيث السن، أن جثمان شنودة سيشيع من الكاتدرائية المرقسية في العباسية شرق القاهرة صباح غد الثلاثاء، بمشاركة كبار رجال الدولة وقيادات الطوائف المسيحية والأزهر والشخصيات العامة والسفراء والقناصل.
وفور الإعلان عن رحيل البابا، توافد الآلاف من الأقباط إلى المقر البابوي في منطقة العباسية، لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة قبل دفنه في دير الأنبا بيشوى في وادي النطرون في صحراء مصر الغربية، بناءً على وصيته التي تركها قبل وفاته بأن يُدفن في الدير نفسه الذي أُجبر على الإقامة فيه أثناء عهد الرئيس الأسبق أنور السادات بين 1981 و1985. وأجلست الكنيسة جثمان البابا على كرسي البابوية، مرتدياً ملابسه البابوية كاملة، وسُمح للأقباط بالمرور أمام الجثمان لإلقاء نظرة الوادع عليه، وسط حالة من الحزن والبكاء الهستيري أحياناً، علماً بأنه يُفترض أن يظل الجثمان على هذا الكرسي حتى صباح الثلاثاء قبل الصلاة عليه ودفنه.
الآلاف الذين تجمعوا داخل الكاتدرائية في العباسية وخارجها، لم يخفوا قلقهم على مستقبلهم، إذ كان شنودة «صمام الأمان للأقباط»، على حد تعبير إحدى السيدات وهي تبكي رحيل البابا وتصرخ «حنعمل إيه من بعدك مين حيحمينا؟». ورفع أحد المشاركين في الوداع لافتة كتب عليها «إحنا في خطر من بعدك يا بابا». وينظر الأقباط إلى شنودة على أنه ليس الأب الروحي لطائفتهم فحسب، بل القادر على التواصل مع السلطة لمنع وقوع الجور على حقوقهم، وحمايتهم من الغالبية الإسلامية في البلاد. وبدا واضحاً مدى الحزن المسيطر على الأقباط في الشوارع والمواصلات العامة. وقد أجمع عدد كبير من هؤلاء على أن «المستقبل ستحدّده شخصية البابا المقبل». إحدى السيدات تختصر المشهد وهي تبكي قائلة إن «البابا كان حامي الشعب المسيحي، ومش حنلاقي واحد زيه تاني».
ولم يختلف المشهد الحزين في الاسكندرية، حيث سادت حالة من البكاء بين المسيحيين الذين توافدوا إلى مقر الكاتدرائية المرقسية التي تُعدّ مقر الكرسي البابوي منذ قدوم مار مرقس أول مبشر بالمذهب الأرثوذكسي إلى مصر. وقالت مريان جرجس لـ«الأخبار» (35 عاماً ـــــ موظفة) «جئتُ للصلاة من أجل البابا، فهو سيدنا كلنا ومش متخيلة إنو حتيجي عظة البابا وميكونش قدامي البابا شنودة، البابا شنودة صعب يتعوض، لكن إحنا عارفين أنه تنيح (تعني توفي بالقبطي) وبقي عند ربنا في الأمجاد السماوية». بدوره، أشار الدكتور كميل صديق، سكرتير المجلس الملي للكنيسة الأرثوذكسية في الإسكندرية، لـ«الأخبار»، إلى أن وفاة البابا «تمثل خسارة كبيرة للشعب المصري بمسلميه قبل أقباطه، حيث إنه كان يتسم بالوطنية والحفاظ على وحدة الوطن»، بحسب تعبيره. وقد غادر القس رويس مرقس، وكيل البابا في الإسكندرية، إلى القاهرة لحضور اجتماع «المجمع المقدس» الذي يُعدّ مرقس أحد أعضائه، ذلك أن الإسكندرية لا تتمثل بأسقف لأن البابا هو أسقفها، بما أن «المجمع المقدس» يتكون من أساقفة الأبرشيات ورؤساء الأديرة في مصر.
وقد أصدر المجلس العسكري الحاكم، بياناً نعى فيه البابا، وأبرز ما جاء فيه أن «مصر والعالم فقدا رجل دولة من الطراز النادر‏، أعلى مصلحة الوطن فوق كل اعتبار». وحضر رئيس الشرطة العسكرية اللواء حمدي بدين إلى مقر الكاتدرائية للإشراف على عملية تأمين المقر، وتنظيم التجمعات الكبيرة التي تتوافد. وكشفت مصادر كنسية أن رئيس المجلس العسكري المشير حسين طنطاوي، ونائبه سامي عنان، سيحضران إلى المقر البابوي لتقديم التعزية. ولم يتأخر رئيس الحكومة كمال الجنزوري في نعي شنودة، فقدم «خالص التعازي للإخوة الأقباط داخل مصر وخارجها». بدوره، أشار بيان لشيخ الأزهر أحمد الطيب إلى أن «مصر فقدت أحد رجالها المعدودين، في ظروف دقيقة تحتاج فيها إلى حكمة الحكماء وخبرتهم وصفاء أذهانهم، ولم يكن لفقيد مصر مواقفه الوطنية وشخصيته الخيرية وسعيه الدؤوب على المستوى الوطني فحسب، بل على الصعيد القومي، حيث عاشت قضية القدس ومشكلة فلسطين في ضميره، ولم تغب أو تهن أبداً»، بينما قال رئيس مجلس الشعب محمد سعد الكتاتني «لقد عاش قداسته وطنياً، ومات وطنياً مخلصاً، وسعى بكل جهد إلى رفعة الوطن وإعلاء شأنه ونتذكر له مواقفه الوطنية المشهودة ضد انتهاك القدس الشريف وتدنيس المقدسات الإسلامية والمسيحية». وفي السياق، أعلنت جماعة «الاخوان المسلمين» أن «المرشد العام للجماعة محمد بديع سيتقدم وفد مسؤولي الجماعة «المقرَّر أن يشارك في وداع غبطة البابا شنودة الثالث». وقال بديع «باسمي وباسم الإخوان المسلمين، نتقدم إلى إخواننا في الوطن والإنسانية أقباط مصر فرداً فرداً بأخلص التعازي القلبية والمشاركة الوجدانية في مصابهم الأليم ومصاب الوطن». كذلك، أصدر حزب النور السلفي بياناً قدم فيه التعازي للأقباط. ولم يتأخّر مرشحو رئاسة الجمهورية والشخصيات العامة، والأحزاب في إصدار بيانات تعازٍ.