دمشق | بدا المشهد في ريف دمشق متفاوتاً من حيث الإقبال على التصويت؛ ففي وقت نشطت فيه الفرق الحزبية التابعة لحزب البعث العربي الاشتراكي وعملت على حشد أنصارها للاستفتاء والحضور، نشطت بالمقابل التنسيقيات من أجل الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء، على اعتبار أن الدستور لا يمثل الشعب. لذلك كان الإقبال كبيراً في بعض المناطق، بينما وصل الى حد المقاطعة في بلدات أخرى. أما الضيف الثقيل على الاستفتاء في المحافظة، فكان بلا منازع انقطاع الكهرباء الذي وحد مؤيدي النظام مع معارضيه.
البداية كانت من داريا، التي بدت في كوكب آخر لا علاقة لها بما يجري. المحال مغلقة والشوارع شبه خالية والمدارس بالكاد يذهب إليها بعض التلاميذ. وعند السؤال عن السبب، يأتي الجواب حاسماً: «الدستور لا يعنينا». في البلدة المجاورة لحي المزّة الدمشقي تتغير أسماء الساحات والشوارع تبعاً لأسماء شهداء داريا، وأبرزهم الشاب غياث مطر، المعروف بدعوته إلى العمل السلمي. ويقول الأهالي «من باب الوفاء لشهداء داريا ومعتقليها، فإننا نقاطع هذا الاستفتاء».
لكن حال داريا لا ينسحب على جارتها معضمية الشام، التي بدت كأنها لم تشهد أي عمليات للجيش وقوى الأمن في الفترة الماضية، بل بدت الشوارع مزدحمة على غير العادة، ومراكز الاستفتاء فيها شهدت إقبالاً كثيفاً، ولم يخل الأمر من مسيرات تأييدية وداعمة لمسيرة الإصلاح.
وفي داخل المراكز، كانت كاميرات التلفزيون الرسمي مشغولة بإجراء اللقاءات مباشرة مع المواطنين لنقل رسالة واضحة: «جميعنا جئنا بملء إرادتنا للإدلاء بصوتنا في الاستفتاء على الدستور». المشهد ذاته يتكرّر في البلدة المجاورة، جديدة عرطوز، على أن ما عكر صفو الأجواء كان الانقطاع المتتالي للكهرباء بشكل متناوب كل ثلاث ساعات، وهو ما جعل العشرات يصبّون جام غضبهم على أداء الحكومة وتخبطها الاقتصادي، لكنهم ما لبثوا أن عادوا لدعم النظام والموافقة على الدستور. ولا مانع بالطبع من بعض الرشقات الكلامية على المتظاهرين مع العبارة الشهيرة: «هيدي هي الحرية اللي بدّن ياها!».
وإذا كانت هذه هي الحال في ريف دمشق الجنوبي والغربي، فإن الزبداني تناست جروحها التي أُصيبت بها في الأيام الماضية، وشهدت بدورها إقبالاً كثيفاً. وعلى أبواب المركز، وقفت كاميرات الإعلام الرسمي لتسأل الداخل والخارج عن انطباعه، وتوزعت الإجابات على نحو لافت بين مؤيد للدستور كجزء من حزمة الإصلاحات التي يقوم بها الرئيس، ومعارض للمادة الثالثة أو قوانين الانتخاب، أو حتى تحديد سن ولاية الرئيس، فيما كان الأكثر غرابة، بحسب قول مواطن أصر على عدم كشف هويته، هو إصرار البعثيين على الحشد وبكثافة للتصويت لمصلحة الدستور، الذي يلغي مكتسبات الحزب الحاكم للبلاد طيلة نصف قرن تقريباً، متسائلاً بسخرية: «هل أعطوهم نسخة مختلفة عن تلك التي بين أيدينا؟». نسأله عن رأيه وكيف أدلى بصوته فيجيب: «قررت التصويت بـ لا لكثرة الشوائب التي تعيب الدستور الجديد، ولربما تكثر الأصوات الرافضة مثلي فيعدلون بعض المواد فيه».
في البلدة نفسها، التي شهدت معارك عنيفة بين الجيش النظامي والمنشقين عنه، كان لافتاً الهدوء التام وغياب صوت الرصاص، وهو ما أشعر الناس بالارتياح وردّد بعضهم: «تنذكر ولا تنعاد حين سؤالهم عن الأيام الماضية».
وفي بلدات ريف دمشق الواقعة على الطريق الدولي بين دمشق وحمص، تفاوت أيضاً حجم الإقبال على التصويت. فقررت زملكا الواقعة على أطراف العاصمة إعلان العصيان المدني والمقاطعة، وتحوّلت الجدران وواجهات المحال فيها الى معرض لكتابات «الرجل البخاخ» الداعية إلى الحرية وإسقاط النظام، فيما نشط عشرات المعارضين في توزيع المناشير الداعية إلى المقاطعة والالتزام بالإضراب. لكن هذه الكتابات لم تلبث أن طُليت بالأبيض عند دخول قوات الأمن.
مشهد مماثل في كل من حرستا ودوما مترافقاً مع تظاهرات ضخمة، قرّر فيها الأهالي الردّ على دعوات السلطة للسكان للإدلاء بصوتهم، فيما قطع آخرون الطرق بالإطارات المشتعلة وإغلاق للمحال في التزام بما يسمى مرحلة التصعيد الثوري، بحسب قول الأهالي، الذين وعدوا بالرد على الاستفتاء بتظاهرات مسائية. ومع ذلك، فقد نجح مؤيدو النظام والحزب في التوجه إلى مراكز الاستفتاء، لكن كان لافتاً هنا غياب الإعلام الرسمي فعوّض عن ذلك مسيرات للمناصرين ردّاً على تلك التي خرجت للمقاطعة.
ومع التوجّه شمالاً، بدت مناطق جبال القلمون معنية أكثر من غيرها بالاستفتاء؛ فشهدت بلدات جيرود والنبك ودير عطية إقبالاً كثيفاً، رافقه حضور إعلامي ونشاط كبير للبعثيين، كما باقي مناطق ريف دمشق، على أن المفارقة تكمن في نشاط باقي أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وخاصة الشيوعي، للدعوة هي الأخرى إلى النزول والإدلاء بالرأي، مع أن آراء كثير منهم ذهبت لمصلحة رفض الدستور.