كل قطع الـ«بازل» puzzle لحرب إيرانية ـــــ إسرائيلية جاهزة ومفرودة أمامنا في الوقت الحالي، لكنها لا تزال مبعثرة بانتظار من يكمل تركيب اللوحة، أو يعيدها الى العلبة إلى حين. وكمن يسابق الوقت لإقناع إسرائيل بعدم صوابية الهجوم على إيران، سارعت أقلام الصحافيين الأميركيين الى ترداد ما تشيعه الإدارة الأميركية، في الظاهر على الأقلّ، بأنها لا تؤيد هجوماً إسرائيلياً على إيران الآن.

وبين معدد للأسباب التي ستؤدي الى حرب إقليمية لن تكون لمصلحة أحد، ومن يحاول ردع إسرائيل عن قرارها كمن يتحايل على طفل مدلل، برزت بعض الأصوات التي شككت بجدية طرح الهجوم الإسرائيلي أصلاً، سائلة إن لم يكن ذلك كلّه مجرد همروجة انتخابية لمصلحة باراك أوباما، وبنيامين نتنياهو و... علي خامنئي.
طبعاً، الدافعون الى خيار الحرب، من المتشددين والمحافظين، لا يزالون هنا، يقدّمون الحجج نفسها التي استعرضت قبيل الحرب على العراق خلال عهد جورج والكر بوش، مستخدمين التعابير نفسها أحياناً! لكن هؤلاء لم «يوفّقوا» بعد بوزير دفاع أو وزير خارجية يخرج الى العلن ويقول سنضرب إيران لإنقاذ العالم من برنامجها النووي وحماية الأميركيين.
وبالعودة الى الـ puzzle، رسم معظم المحللين الصحافيين المشهد الآني ذاته: إسرائيل تصعّد لهجتها وتهدد بضرب إيران، وتتهمها باستهداف مسؤولين إسرائيليين في الخارج؛ إيران بدورها تبشّر بحرب استباقية، وتتهم إسرائيل باغتيال علمائها النوويين على الأراضي الإيرانية؛ النظام الإيراني يدعو الغرب الى جولة حوار حول النووي، ثم يمنع مراقبي الوكالة الدولية عن أحد المواقع؛ الجنرال مارتن ديمبسي (رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية) يعلن أن «إيران لم تنتقل بعد الى السلاح النووي» وأن «أي هجوم الآن يعدّ سابقاً لأوانه وغير محترس».
عبارات ديمبسي، يشرحها دايفد إغناتيوس في «ذي واشنطن بوست» بكلمات قليلة: «هو يقول للإسرائيليين لا تهجموا». إغناتيوس يعدد في مقاله بعض الأمثلة التي تظهر أن «المسؤولين الإيرانيين عقلاء، لكنهم لا يلينون إلا عندما يرون الحرب باتت على أبوابهم». ومن الأمثلة، يذكّر الصحافي الأميركي بقبول قائد الثورة الإيرانية روح الله الخميني بهدنة الأمم المتحدة وبوقف الحرب الإيرانية ـــــ العراقية عام ١٩٨٨، قائلاً «شربت كأس السمّ». والمثل الثاني الذي يستشهد به إغناتيوس، هو وقف علي خامنئي البرنامج النووي الإيراني عام ٢٠٠٣ «بسبب الضغوط الدولية» كما قال، مع بدء الحرب على العراق. ويخلص الكاتب إلى «أن الإيرانيين يقيسون جدية الغرب لدوزنة قابليتهم للتفاوض»، لذا يناشد إغناتيوس الإدارة الأميركية أن «تقنع إيران بأن مسألة الصدام معها هي جدّية. ثم لتفتش عن طريقة حكيمة لجرّها الى التفاوض».
فريد زكريا، في مقاله في «ذي واشنطن بوست» أيضاً، نبش أمثلة تاريخية من الحرب العالمية الأولى ليحاول إقناع الإسرائيليين بأن خيار ضرب إيران هو أمر غير صائب. زكريا أشار الى أن «المسؤولين الإسرائيليين يقولون لنا أنتم لا تفهمون مخاوفنا، بأن إيران هي تهديد وجودي لنا. لكني أجيبهم، بلى نحن نفهمكم تماماً، لأن هذا ما شعر به الأميركيون بالضبط عندما اقترب الاتحاد السوفياتي من امتلاك قدرات نووية. فكل ما تقوله إسرائيل عن إيران اليوم قلناه نحن عن الاتحاد السوفياتي في السابق».
لكن في المقلب الآخر ومن بين مجموعة الرافضين للحلّ الدبلوماسي، برز جاستن لوغان في «ذي ناشيونال إنترست»، الذي لام بعض الصحافيين الرافضين لضرب إيران، سائلاً «إذا قلبتم الأدوار، هل تقبلون بعرض الدبلوماسية والتفاوض الذي تقترحون أن تعتمده الولايات المتحدة؟».

خطة أميركية ــ إسرائيلية مدروسة؟

سكوت شاين في «نيويورك تايمز» يرى أن الأجواء، وخصوصاً الصحافية منها، تشبه الى حدّ بعيد تلك التي سادت قبيل حرب العراق، لكنه يشير الى فارق أن المسؤولين في إدارة أوباما يحاولون تهدئة الأجواء لا إشعالها كما في عهد بوش. وفيما يشير شاين الى إحصاء «معهد بيو للأبحاث»، الذي يظهر أن ٥٨٪ من الأميركيين يؤيدون تدخلاً عسكرياً أميركياً في إيران لمنعها من الحصول على السلاح النووي، يشرح له محلل «مجلس العلاقات الخارجية» ميكا زينكو أنه «عندما نواجه تحدياً أمنياً كبيراً، فإن السياسيين، كما الناس العاديين، يريدون أن يفعلوا شيئاً ما، والقوة العسكرية هي أكثر ما يشبع رغباتهم بفعل شيء». بيتر فيفر يشير، من جهته، إلى أن «سياسة أوباما اليوم تجاه إيران هي في الوسط تماماً عند آراء المواطنين»، لكن فيفر يردف «مع اقتراب الانتخابات ستستعر الآراء وتتصاعد حدّة الحملات، والأخطر هو الحديث عن أزمة في السياسة الخارجية خلال الحملات الانتخابية».
وفيما كثرت الإشارات الصحافية التي تحذّر من أن دعوة إيران إلى الحوار هي مجرّد حيلة لكسب المزيد من الوقت، خرج بول ريشتر وإدموند ساندرز في «لوس أنجلس تايمز» ليسألا «هل هناك نزاع فعلي وخلاف بين الحليفين الأميركي والإسرائيلي؟ أم أنهما ينسّقان حملة مدروسة ليتمكنا من الحصول على تنازلات من إيران؟».
دايفد ماكوفسكي، في «فورين بوليسي»، لا يرجّح هذه الفرضية. وبالنسبة إليه، يجب أن تقرّب الأزمة الإيرانية بين الرئيسين اللذين لا تجمعهما علاقة هادئة. «لا يخفى على أحد أن الرئيسين غير متقاربين، لذا هو الوقت المناسب ليتوحّدا حول مواجهة الأزمة الإيرانية»، يقول ماكوفسكي. لكن المحلل يشير الى أن «الخطوط الحمر» بين الولايات المتحدة وإسرائيل تجاه إيران تبدو مختلفة، فبينما ينصبّ الاهتمام الأميركي على النووي الإيراني، يتركّز القلق الإسرائيلي على الصواريخ الإيرانية بسبب القرب الجغرافي. ماكوفسكي، ينقل أجواءً من داخل الحكومة الإسرائيلية «غير أكيدة من أي موقف لنتنياهو أو إيهود باراك حيال ضرب إيران». ويضيف الكاتب «قد ينتظر الطرفان مفاعيل العقوبات الاقتصادية على إيران ويأملان أن تدفعها الى تنازلات. لكن، حتى لو فشلت العقوبات بتحقيق المبتغى فإن إسرائيل قد تخشى رفض الولايات المتحدة ضرب إيران عسكرياً، وخصوصاً أن الشعب الأميركي بات متعباً من الدخول في صراع جديد».

الأمر بيد خامنئي

لكن، ماذا عن العقوبات ومدى تأثيرها على إيران؟ يكاد يجمع المتابعون على أن العقوبات باتت تلقي بثقلها على الاقتصاد والعملة والشعب في إيران. «مجلس العلاقات الخارجية» يؤكد أن «النظام الإيراني تأذى كثيراً من العقوبات»، ويشير الى استطلاع للرأي أجرته «غالوب»، ويبيّن أن ٢٧٪ من عيّنة من ألف شخص يقولون إن «العقوبات تؤثر كثيراً على حياتهم». الاستطلاع نفسه يظهر في المقابل ٢٥٪ من العيّنة البشرية تقول «إن العقوبات ليس لديها أي تأثير على حياتهم».
«الأمر بيد خامنئي. فهو وحده يقرر بشأن النووي الإيراني وكيفية إنهاء الأزمة»، هكذا يقول عليريزا نادر على موقع «راند». نادر يشير الى أن «مسألة النووي الإيراني هي ذات أهمية كبرى على الصعيد الداخلي الإيراني كما على السياسة الخارجية»، ويردف «خامنئي يرى أن الأزمة الحالية مع الغرب لا تشكل أبداً سبباً للتراجع، بل على العكس هي بمثابة امتحان لمدى صمود الجمهورية الإيرانية بقيادته». إذاً، يضيف الكاتب، فإن «كيفية معالجة هذه الأزمة لن ترسم مستقبل إيران فحسب، بل ستحدد أيضاً مصير نظام الثورة الإيراني برمّته». «المرشد الأعلى معروف بعناده، وهو يعتقد أن أي تسوية تعقد الآن في خضم الضغوط المتزايدة سوف تكون مدمّرة للجمهورية الإسلامية»، يشير نادر، ويضيف «هو يعوّل على تدهور قوة الولايات المتحدة وعلى ما أطلق عليه اسم الصحوة الإسلامية في المنطقة، كما يتّكل على تمسك الإيرانيين ببرنامجهم النووي كقضية وطنية جامعة».



هل سمعتم ما قالته زوجة قاشاني؟

أكثر ما أدهش جوناثان توبين، في «ذي كومنتري»، هو ما قالته زوجة العالم الإيراني الذي اغتيل أخيراً، فاطمة بولوري قاشاني. هي قالت إن «هدف زوجها كان تدمير إسرائيل»، وتوبين خصص مقاله ليلفت الى هذا الكلام ويقول «يبدو أن تدمير إسرائيل أمر ليس محصوراً بتصاريح بعض المسؤولين في السلطة، بل يتداوله المواطنون الإيرانيون». توبين يشير الى أن النظام الإيراني اعتبر قاشاني شهيداً، فيما يجب أن يصنّف «إرهابياً». لماذا؟ يشرح الكاتب أن «كل من يعلن أنه يريد أن يزيل إسرائيل ويعمل على امتلاك السلاح الذي قد يحقق له ذلك، يجب أن يعامل كما يعامل أوباما إرهابيي القاعدة». توبين يستغرب أيضاً من اتهم إسرائيل بـ«الإرهابية» أو بـ«الدولة الراعية للإرهاب» عند الحديث عن احتمال تورطها في تصفية علماء الذرة الإيرانيين، «فيما لا يخفي المسؤولون في النظام الإيراني رغباتهم في تدمير إسرائيل وإزالتها من الوجود علناً».