انتفض القضاء العراقي قبل أيام قليلة بعدما بلغت حملات التشكيك بحياديته واستقلاله أوجها. ردة الفعل القضائية هذه اتخذت عدة وجوه، منها إصدار مجموعة طلبات قدمها مجلس القضاء الأعلى إلى رئاسة مجلس النواب لرفع الحصانة عن عدد من النواب، تمهيداً لمحاكمتهم. من بين هؤلاء النواب المطلوبين للقضاء، الناطق الرسمي باسم قائمة «العراقية» حيدر الملا المتهم بالإساءة إلى القضاء والتهجم عليه في عدة مناسبات. الملا قال إنه طلب من رئاسة البرلمان الموافقة على الطلب، لأنه مستعد للمثول أمام القضاء، وأشار إلى أنه يتشرف بما قال وما فعل بهذا الصدد؛ لأنه كان يمارس حقوقه الدستورية.
نائب آخر طالب مجلس القضاء برفع الحصانة عنه هو سليم الجبوري من «العراقية» أيضاً، بتهمة الإرهاب. أما النائب المستقل، وعضو كتلة الفضيلة الإسلامية سابقاً، صباح الساعدي، الذي عُرف بانتقاداته اللاذعة لحكومة نوري المالكي، ولرئيسها شخصياً، فقد طلب القضاء رفع الحصانة عنه بتهمة الفساد المالي والإداري حين كان رئيساً للجنة النزاهة البرلمانية.
النائب الرابع الذي طُلِبَ رفع الحصانة عنه، وهو من قيادات «التحالف الوطني»، ويُدعى جعفر الموسوي، وهو نائب وقاضٍ أدى دور المدعي العام في محاكمة الرئيس الراحل صدام حسين. تهمة الموسوي هي تورط أحد أفراد حمايته في محاولة تفجير مجلس النواب في 28 تشرين الثاني الماضي، وقد اختفى هذا الشخص بعد المحاولة ولم يعثر له على أثر.
ولم تقتصر حملة مجلس القضاء الأعلى المضادة على إصدار طلبات رفع الحصانة عن النواب، بل عَمَدَ كبار مسؤوليه، ومنهم رئيس المجلس القاضي مدحت المحمود، والناطق الرسمي باسمه القاضي عبد الستار البيرقدار، إلى الإدلاء بسلسلة تصريحات وبيانات، كما عقد اجتماعات ولقاءات بعضها موسع بحضور ممثلي الصحافة المحلية. رئيس المجلس مدحت المحمود، قال خلال لقاء مشترك ضمّ رئيسي جهاز الادعاء العام والإشراف القضائي ورئيس محكمة التمييز وعدداً من القضاة ورؤساء تحرير والكتاب في عدد من الصحف، إنّ «استقلال القضاء تجربة ينفرد بها العراق عن كل دول العالم، وليس له علاقة بالسلطة التنفيذية، وهو حالة متميزة». المحمود، الذي بدا واثقاً في نفسه بإفراط في نظر بعض المراقبين، طرح هو وزملاؤه بعض الحجج والأدلة التي سجّلت تمسكهم بالاستقلال عن السلطة التنفيذية، لكنها لم تقنع الجميع كما ظهر من ردود الأفعال.
وأوضحت مصادر قضائية أن هذا الاجتماع غير المسبوق عُقد «لتبادل الرؤى والأفكار بين القضاء والإعلام وتوضيح بعض الملابسات التي تناولتها وسائل الإعلام المختلفة وبعض التصريحات للسياسيين، ولا سيّما في القضايا التي ترتبط بشخصيات سياسية». غير أنّ المحامي والمحلل السياسي إبراهيم الصميدعي، الذي حضر اللقاء، قال منتقداً إنّ «عرض اعترافات متهمين في طور التحقيق الابتدائي أمر غير قانوني»، لافتاً إلى أنه «لا يكفي السلطة القضائية أن تنأى بنفسها عنها». وكان الصميدعي يشير بهذا إلى بيان نشرته بعض وسائل الإعلام المحلية، ويفيد بأن القضاء حمّل حكومة المالكي مسؤولية نشر اعترافات أفراد حماية نائب الرئيس طارق الهاشمي المعتقلين. لكن البيرقدار نفى صدور بيان كهذا، على قاعدة أن «المجلس الأعلى لم يصدر أي بيان لوسائل الإعلام منذ أسبوعين».
ونبّه الصميدعي أيضاً إلى أنّ «هناك نصاً دستورياً آخر معطلاً بالكامل، هو المادة 89 التي تنص على الآتي: تتكون السلطة القضائية الاتحادية من مجلس القضاء الأعلى، والمحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز الاتحادية، وجهاز الادعاء العام وهيئة الإشراف القضائي، والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تُنَظّم وفقاً للقانون». ولاحظ في هذا السياق أن السلطة القضائية الاتحادية «ليس لها أي ولاية على قضاء إقليم كردستان رغم أنها اتحادية؛ لأن وجود سلطتين قضائيتين في بلد يعني أنّ هذا البلد ليس فدرالياً ولا اتحادياً، بل عبارة عن بلدين متجاورين».
المشاكل والأزمات التي يعيشها القضاء العراقي كثيرة، وبعضها يتسم بالصعوبة، على حد وصف مصادر من داخل الجهاز القضائي؛ فبعض القضايا الجنائية جُمِّدت، أو أُجِّلت، أو حُكم غيابياً فيها، وتُرك أمر التنفيذ لصعوبة الوصول إلى المتهمين أو بسبب التجاذبات السياسية والحسابات الطائفية. من أصحاب قضايا كهذه، يمكن التذكير بقضية وزير الثقافة السابق أسعد الهاشمي، أحد أقارب نائب الرئيس طارق الهاشمي، الذي اتُّهم عام 2007 بقضايا إرهاب، من ضمنها قتل أبناء النائب السابق مثال الألوسي.
وصدرت عدة مذكرات اعتقال بحق العديد من المسؤولين بعد هروبهم إلى خارج البلاد أو أثناءه، منها مذكرة الاعتقال بحق رئيس هيئة النزاهة السابق راضي الراضي، الهارب إلى الولايات المتحدة بعد اتهامه بالفساد، والنائب السابق، المجهول الإقامة، محمد الدايني بتهمة تفجير البرلمان سنة 2007. غير أن أهم المشاكل والأزمات التي واجهت القضاء وأخطرها، التي لم ينجح في الخروج من شباكها حتى الآن، هي قضية اتهام نائب الرئيس الهاشمي بالإرهاب، وإصدار مذكرة اعتقال بحقه وأخرى تقضي بمصادرة أمواله.
وفي سياق حملة الدفاع عن القضاء، ذكر الناطق الرسمي باسم المجلس الأعلى للقضاء أن «من يشكك في القضاء هو الذي خسر قضيته أمام المحكمة والشعب العراقي»، وهو ما رأى فيه البعض تلميحاً إلى تداعيات قضية الهاشمي. وتابع البيرقدار قائلاً إن «القضاء مستقل وغير مُسَيّس كما يدعي الآخرون، وأتحدى أي شخص يقول غير هذا، فالقاضي يتسلم راتبه من مجلس القضاء الأعلى، وكذلك ترقيته ومخصصاته وإيفاداته وكل ما يخص عمله وأوامره كلها عائدة إلى سلطة القضاء الأعلى».



اجتثاث قضائي


يبلغ عدد القضاة في العراق 1360 قاضياً، بينهم 72 قاضية، علماً بأن قضاة إقليم كردستان لم يحتسبوا ضمن هذه الإحصائية. هذا العدد من القضاة والقاضيات لم يعد كافياً لإدارة العملية القضائية بسبب الحالة الأمنية والسياسية السائدة. وبما أن الجهاز القضائي العراقي الحالي موروث من مؤسسات النظام الدكتاتوري السابق، فليس من الصحيح، مثلما يرى مراقبون، التعويل عليه في حسم قضايا معقدة كتلك التي عُهدت إليه، نظراً إلى ما أصابه طوال العهد السابق أو الحالي من عمليات فساد وإفساد. مشكلة جديدة بدأ القضاء يعاني منها، هي الاجتثاث؛ فقد تدخلت الحكومة أخيراً وطالبت بتغيير أربعة قضاة من مجموعة عشرة مرشحين لعضوية المحكمة التمييزية الاتحادية لشمولهم بقانون «المساءلة والعدالة» الهادف إلى اجتثاث البعثيين من مؤسسات الدولة قبل عرض القائمة على البرلمان للتصويت. ويسجّل مراقبون أنّ القضاء العراقي دفع غالياً ثمن محاولة الوقوف على قدميه، والقيام بمهماته خلال فترة الاحتلال والاقتتال الطائفي العصيبة؛ إذ قُتل من كوادره 49 قاضياً وعدد من ذويهم، إلى جانب تهجير الجماعات المسلحة عدداً من القضاة من مناطق إقامتهم، ومنهم القاضي البيرقدار نفسه.