هزّ مقتل الملازم في الجيش العراقي، نزهان فالح الجبوري، وزميله نائب العريف علي أحمد سبع، الوجدان العراقي، وأطلق حملة عفوية واسعة النطاق من الرفض للطائفية السياسية وكل ما له صلة بها، وتوقف عندها المراقبون لما انطوت عليه هذه الحادثة المأساوية من معانٍ بالغة الدلالة. الفقيدان عسكريان من العرب السُنة، الأول من سكان قضاء الحويجة التابع لمحافظة كركوك، والثاني من سكان محافظة ديالى المختلطة طائفياً وقومياً، وقد قتلا في التفجير الانتحاري الذي وقع قبل أيام في ناحية البطحاء التابعة لمحافظة ذي قار الجنوبية، واستهدف مواكب الزائرين الشيعة المتوجهين على أقدامهم إلى كربلاء والنجف والكوفة. روايات الشهود العيان قالت إن الملازم الأول نزهان، والذي كان يقود دورية للمراقبة والتفتيش، اكتشف الانتحاري قبل أن يفجر نفسه بقليل، فهرع إليه واحتضنه محاولاً إبعاده عن وسط حشود الزائرين المشاة، لكن الانتحاري تمكن من تفجير نفسه بحزامه الناسف، فقتل وجرح العشرات، بينهم الملازم نزهان وزميله. هذه المأثرة صارت موضوعاً لتعليقات ومداخلات في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي؛ ففي مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار الجنوبية وذات الغالبية العربية الشيعية، أقيم تشييع مهيب وحاشد للفقيدين، نزهان وعلي، بمشاركة كبار رجال الحكومة المحلية والجيش والشرطة. وقد طالب الآلاف من المشاركين في الجنازة بتشييد نصب تذكاري لهما في المدينة. وبحسب مسؤول محلي، فإنّ «مجلس المحافظة يدرس حالياً تشييد نصب أو تمثال لهما في مركز المحافظة». كذلك أطلق الأهالي اسمَي الفقيدين على شارع وساحة عامة في المدينة، وتبنّت السلطات الرسمية هذه المبادرة، وهو ما تكرر في محافظة ميسان الجنوبية المجاورة. وبعد التشييع المهيب والحاشد في الناصرية، نقلت جنازتا الفقيدين إلى مدينتيهما شمال العراق، حيث أقيم لكل منهما تشييع آخر لا يقل مهابة.
هذه الحادثة ليست الوحيدة من نوعها عراقياً، فقد أعادت إلى الأذهان مأثرة أخرى سبقتها وكان بطلها الشاب البغدادي عثمان علي الأعظمي، الذي أصبح رمزاً من رموز التضامن الشعبي اللاطائفي خلال كارثة جسر الأئمة. وقعت هذه الكارثة في عهد رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري عام 2005 ، ومات فيها غرقاً نحو ألف شخص وجرح المئات إثر شائعات كاذبة ومنسَّقة بوجود انتحاري بين صفوف آلاف الزائرين القاصدين لمرقد الإمام الكاظم، سابع أئمة المسلمين الشيعة، وذلك في لحظة اكتظاظ الجسر المذكور بالعابرين وكانوا بالآلاف. خلال تلك المأساة، هرع الشاب عثمان، وهو في السابعة عشرة من العمر ومن أسرة عربية سنية، تسكن منطقة الأعظمية القريبة من مكان الكارثة، مع آخرين لإنقاذ الناس من الغرق، وقد تمكن من إنقاذ سبعة أشخاص كما قيل وقتها، لكنَّ التعب والإرهاق أثّرا عليه فلم يستطع إنقاذ آخر ضحية كان يحاول إنقاذها فغرقا كلامها.
بالعودة إلى مأثرة الملازم نزهان وزميله، فقد نشرت عدة وسائل إعلام أخباراً وتحقيقات ميدانية عن حالات التضامن الشعبي التي انتشرت خلال الزيارة الأربعينية الأخيرة، حيث شهدت قيام العشائر العربية السنية التي تقيم في المناطق الفاصلة بين بغداد والفرات الأوسط، بتشكيل فرق من شبابها لحماية جموع الزائرين الشيعة المارين بمناطقهم، وتقديم الطعام والشراب لهم. فالمواطن أبو بكر الجنابي على سبيل المثال، الذي ينتمي إلى الطائفة السنية، كما نقلت إحدى الصحف السعودية، «نصب خيمة كبيرة جنوب بغداد لتقديم الخدمات الطبية والإدارية للمتوجهين سيراً على الأقدام إلى كربلاء». وقد بلغت «الحملة التضامنية العفوية» ذروتها مع ظهور والدة نزهان على شاشات بعض المحطات التلفزيونية العراقية وهي تصرح، رابطة الجأش وهادئة، بأنها تفتخر بما فعله ولدها، قائلة «سأكون فخورة أكثر إذا ما استشهد أولادي الآخرون من أجل العراق» على حد تعبيرها.
وقد اتفق مراقبون عراقيون وأجانب على أن التكريم الشعبي الذي ناله العسكريان العراقيان الراحلان يفوق في دلالاته ومعناه العميق التكريم الرسمي الذي سارعت الحكومة إلى القيام به، حين أمر رئيسها نوري المالكي، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، بتكريم الفقيدين وأسرتيهما برتب عسكرية أرقى من تلك التي لديهما. هذا التكريم اعتبره البعض محاولة لتسجيل الحضور الرسمي، فيما ربطه البعض الآخر بحالة التضامن الوطني والمشاعر المناوئة للعنف الطائفي والتكفيري الذي يذهب المدنيون العراقيون من جميع الطوائف والقوميات ضحايا له. غير أن اللافت الذي سجّله بعض الملاحظين هو أن الأحزاب والكتل السياسية الكبرى، كقائمة «العراقية» أو التحالف الكردستاني أو «التحالف الوطني» أو مكوناتها، لم تصرح بموقف أو بيان حتى حول هذه الحادثة التي شغلت الجميع.
وإذا كانت مأثرة الملازم نزهان وزميله قد أجّجت المشاعر الوطنية على مستوى القاعدة الشعبية، فإنها أثارت أسئلة عديدة لدى المحللين والباحثين والسياسيين. بعض هؤلاء تساءل عن دلالات استمرار موجة الانفجارات بعدما أكملت قوات الاحتلال الأميركية انسحابها من البلاد، مشككين ضمناً بالاتهامات القديمة بتواطؤ ومسؤولية استخبارات الاحتلال في تلك التفجيرات ولسان حالهم يقول «ها قد انسحب الأميركيون، لكن التفجيرات التي تستهدف المدنيين متواصلة». الرد على هذه التشكيكات والتساؤلات جاء واضحاً وسريعاً، وخلاصته أنه إذا كان الاحتلال الأميركي قد سحب دباباته وطائراته وجنوده، فهو قد ترك منهم الآلاف وخصوصاً من رجال الاستخبارات والجواسيس المحليين والضباط العراقيين الذين منحهم رتباً عسكرية. وفي المناسبة، فقد طالب أحد النواب الصدريين أخيراً في البرلمان بتجريد أولئك الضباط من تلك الرتب العسكرية وعدم ائتمانهم على أي أسرار. وأشار آخرون إلى أن تنظيم القاعدة، الذي يفاخر بإعلان مسؤوليته عن هذه المجازر، هو أصلاً مخلوق وصنيعة أميركية، ودخوله في مجابهة لاحقة مع صانعيه لا تنفي هذه الحقيقة.