كان لجدتي في مخيم بلاطة، بقالة صغيرة في الشارع الرئيسي، تكاد تكون من عجائب الدنيا. ففي البقالة التي تترابط خيوط معلقة في فضائها بصورة غريبة، تزدحم الاغراض كما في السماء، حيث تعلق بها القصص المصورة للأطفال وبعض اللعب، كذلك على الأرض. البقالة مدخلها صغير نسبياً، اذا دخل اليها احد فعليه ليقف في وسطها أن ينزل درجتين فيجد نفسه في مساحة ضيقة بين كرسيين وطاولة
تصطفّ عليها بعض السكاكر التي يبلغ اغلاها ثمناً 3 أغورات (أصغر وحدة نقدية في الضفة)، وطبعاً بين أكياس الترمس والبوشار والتشيبس البيتي. اما البضاعة الأكثر رواجاً فقد كانت «كيس الأسكيمو» وهو شراب مثلج ثمنه أغورة واحدة فقط. هذا الكيس كان ينفد بسرعة البرق أيام المدارس، بفضل تلامذة المدرسة الابتدائية التي تقع أمام بقالة جدتي. وبرغم وجود بقالة «أم العبد حليلة» المجاورة لبقالة جدتي، وبقالة الشيخ الذي وصفه ابن عمي مرة بأنه «مسلم» ويعطي الشحاذين، باختصار برغم المنافسة إلا أن بقالة جدتي كانت تحتل الرقم واحد في بيع الأسكيمو للصبية الذين يتراذلون أحياناً عليها. وهي كانت تحتملهم، ذلك أن خبرة جدتي اوصلتها الى القاعدة الاقتصادية التي تقول ان «الزبون دائماً على حق مهما كان زنخاً».
المهم، اصيبت جدتي بنقص «التروية» في المخ فكانت تصلّي الظهر حتى العصر، وتواصل صلاة السنّة حتى قبل المغرب بساعات. كنت أحب تمضية الوقت معها، وهي تشتري البرتقال يومياً لسبب مبهم. ولم أعرف السر إلا عندما كبرت وعرفت أنها من «يازور» وهي قرية قرب يافا تشتهر بالبرتقال. من زبائن جدتي احمد السناقرة، وهو كان ولداً «زنخا»، كثيراً ما يتراذل على جدتي. لكن «السنقور»، وهذا لقبه، كان مقاوما ذكياً، فقد اخترع طفلاً، بالونات الدهان، يضربها على شبابيك الجيبات الاسرائيلية. وعندما كانت تقابله القنوات الفضائية، كان يبدو مسكيناً أعزل، لكنه عندما كبر كان بين أول 6 مطلوبين للكيان الصهيوني.
هكذا، سلم نفسه للسلطة من أجل صفقة ما معها، وبانتظار اتمامها وأثناء وجوده في سجن المقاطعة، قصف السجن بالصواريخ. ويا سبحان الله، مات الكثيرون، لكن المطلوبين الستة هربوا، ليقتل السنقور لاحقاً في معركة بطولية نفد رصاصه خلالها، لكنه قاوم بلحمه ودمه وعظمه وأعلن أنه لن يزحف. مات «منتصباً كالأشجار وقوفاً» هذا الطفل الذي كان يشتري «كيس الأسكيمو» من جدتي، ويتراذل فيرمي لها الأغورة، احترم بدون قصد عشقها للبرتقال، واحترم أنه لاجئ ابن لاجئ. اصبح رمزاً لأطفال المخيم المشاغبين على الجدات صاحبات البقالات، لكنهم يبذلون أرواحهم لأجل جدات يأكلن البرتقال في يازور أو تمر بيسان أو عنب الخليل. ليت جدتي كانت حية لتبكي بدموعها اليافاوية على السنقور. وللحزن بقايا.