ريف دمشق | مع بدايات النشاط المعارض المسلّح في ريف دمشق، في أيلول 2011، ظهرت بوادر «قوانين» الثورة و«تشريعاتها»، من خلال ممارسات عناصر «الجيش الحرّ» في المناطق التي سيطروا عليها: قتل من يوصفون بـ«العواينيّة» (مخبري الأمن) ومصادرة ممتلكاتهم، فرض ضرائب، ضرب من يوصفون بـ«المنحبكّجية» (أنصار الرئيس) أو قتلهم، تهديد الموظفين لإجبارهم على الانشقاق، مصادرة السيارات الخاصة أو العامة، نهي الأطفال عن الذهاب إلى المدارس...الخ. إلا أن فرض مجمل هذه الإجراءات كان يجري على نحوٍ اعتباطي وخاطف، كون السيطرة الدائمة على بلدة أو مدينة لم تكن أمراً ممكناً للمسلحين، كما لم تتوافر لهم سجون أو معتقلات دائمة، فكانوا يلجأون الى «عقوبات» سريعة، كالقتل أو الضرب أو إطلاق الرصاص على الرُكب والأقدام. يروي سهيل البدران، النازح من حي التضامن، جنوبي دمشق، لـ«الأخبار» عن الأحكام التي ابتدعها المسلّحون في حيّه: «ظهر المسلّحون بعد خروج عدّة تظاهرات في الحي، ونشوب مواجهات مع موالين مسلّحين من شارع نسرين المجاور. في البداية طالب المسلّحون جهاراً بانشقاق كل من يمت إلى الدولة بصلة، حتى ولو كان موظفاً مدنياً، ولم يستجب أحد لأن المنطقة، ببساطة، كانت لا تزال تحت سيطرة الدولة، ولكون الناس لا تستطيع أن تترك أرزاقها ووظائفها، التي ليس لها علاقة لا بنظام ولا معارضة». بدأت أولى التهديدات تصل إلى شرطة المرور، إذ «كتبت عبارات على أبواب بيوتهم تخيّرهم بين الانشقاق أو القتل. وبالفعل اغتيل ستة من رجال الشرطة والموظفين قبل أن ينزح أهالي الحي منه». كما عمد المسلّحون الى جباية الأموال عنوة، وحدّدوا 50 ألف ليرة لكل عائلة، لقاء «حمايتها من الشبّيحة».أثارت ممارسات المسلّحين المرتجلة تلك استياء الأهالي، حتى في البيئات المعارضة، إذ لم يكن هناك من ضوابط أو أعراف واضحة يعرفها الناس، لكي يصبح بمقدورهم التكيّف مع ما يريده هؤلاء، «فلا أحد يعلم متى تقبض عليه مجموعة مسلّحة بتهمة ملفقة، كعوايني أو موال للنظام، أو شتم الثورة أو الذات الالهية، حتى تُنزل به عقوبة شنيعة، كالضرب المبرح أو العطب وربما القتل. بينما قد يكون وراء تلك الاتهامات ثأر شخصي مع أحد المسلّحين، أو محاولة تشليح الأموال من الشخص، أو الحصول على فدية مقابل إطلاق سراحه».

«الهيئة الشرعيّة»: منهجة الفوضى

تشكّلت «الهيئة الشرعيّة لدمشق وريفها» على يد عبد الغفور درويش (مؤسس أول مجموعة مسلّحة في ريف دمشق، وزعيم لواء الحبيب المصطفى لاحقاً)، في 13/11/2011، أي بعد مضي 4 أيام على تشكيل أول مجموعة مسلّحة في ريف دمشق (كتيبة أبو عبيدة الجرّاح). وضمّ الاجتماع التأسيسي لـ«الهيئة» زهران علوش، زعيم «جيش الإسلام»؛ وسعيد درويش، رئيس الهيئة الحالي؛ وشخصيات أخرى معروفة في أوساط المسلّحين في الغوطة الشرقيّة، كأبي ثابت وضياء دحروج وأحمد بكورة وآخرين. وكان الهدف من تأسيس الهيئة، بحسب المؤسّس «أبي العلاء» عبد الغفور درويش، «ضبط مسار الثورة»، وقُصد بذلك، في حينه، مسار التظاهرات والشعارات وتحالفات المعارضة، أي الجانب السياسي لـ«الثورة»، فالعمل المسلّح يومها لم يكن شائعاً ومنتشراً بعد.
تفصل عدّة أشهر بين تأسيس الهيئة وتشكيل مكاتبها، في مدن وبلدات ريف دمشق، خلالها تولّى عناصر «الجيش الحر» مهمّة فرض سلطة المعارضة على المناطق التي يسيطر عليها، على نحوٍ غير منظّم. إلا أن حال التشريع والقضاء لم يصبح أفضل مع مكاتب «الهيئة الشرعيّة» الجديدة، فقد طغى التشدّد الديني على نحوٍ فاق كل «زعرنات» عناصر «الحرّ» في الأشهر التي تلت ظهور التسلّح، يقول ي. سليم، من مسرابا، لـ«الأخبار»، ويضيف أن رئيس المكتب الشرعي في مسرابا، ويدعى أبو ياسر، يأمر عناصره بضرب المتَّهمين علناً، «وفي إحدى المرات، ضرب أحد عناصره شخصين على الملأ بالكابل الرباعي، أحدهما بتهمة شرب الكحول، والثاني بسبب الشجار مع زوجته التي تبيّن أنها على قرابة مع أحد عناصر المحكمة».
وتهمة «العمالة للنظام» تستوجب القتل، إلا في حال أمكن التفاوض على المتهمين لمبادلتهم بأسرى لدى أجهزة الدولة، وتنسحب هذه التهمة على أدنى علاقة تربط أي شخص مع الدولة. فقد أصدر «اتحاد جهات الفتوى»، حكماً ينصّ على الآتي: «يحذر الاتحاد جميع المواطنين السوريين من البقاء في ظل الطغمة القاتلة للناس، والمهلكة للحرث والنسل، وينبّه على أن من لم يسارع للانشقاق سيكون مطلوبا للمحاكم اليوم وغدا، وللقصاص العادل الصارم، وإن الانشقاق واجب شرعي ديني ووطني»، ويطبّق على هؤلاء حد «الحرابة» (السرقة وقطع الطريق)، و«الفساد في الأرض»، والعقوبة عمليّاً هي القتل. ويطبق حكم القتل على أبناء الطوائف الأخرى، فكثيراً ما ترد عبارة «العدو النصيري» في وصف النظام السوري، على لسان سعيد درويش رئيس «الهيئة الشرعية»، الذي يؤكّد ضرورة قتل «النصيرية والروافض» في جلّ خطبه المصورة والمنشورة على صفحات التواصل الاجتماعي، والتي تحمل أسماءً مثل « كرامات المجاهدين في حربهم مع النصيريين»، ويذكر في هذه الأخيرة معجزة سقوط الثلج على «أعداء الثورة»، بعد أن وجّه الرب مسار الثلوج على بقع بعينها، مقابل عدم سقوطه على المجاهدين في الغوطة الشرقية، على بعد مئات الأمتار.
وتجري المحاكمات بلا محامين ولا نص دستوري، سوى أحكام الشريعة، وبلا أي خصوصيّة للمتهمين. بل على العكس، فغالباً ما يجري التشهير بهم ليكونوا «عبرة لمن يعتبر». يتحدّث عبد الكريم خولاني، من داريا، لـ«الأخبار» عن شخص، يدعى «أبو عنتر»، يرأس «المحكمة الشرعيّة» في داريا، وكان يعرف قبل الأحداث كمتسكع على دراجة ناريّة حديثة، متنقلاً من ملهى ليلي إلى آخر، وفي بداية أحداث العنف أطال لحيته، وتظاهر بالتديّن وأصبح قاضياً، بعدما رفض شيوخ داريا القبول بهذه المهمّة تحت جناح «الجيش الحرّ»، وتحوّل هو وثلّة من الشبان إلى قاض وجهاز أمني صغير، فامتهنوا السرقة والسطو، وضرب الناس على الملأ، ويضيف عبد الكريم «يحدث أن يدفع شخص رشوةً لأبي عنتر مقابل حكم يصدره، ففي إحدى المرات أجبر شخصاً تحت الضرب على بيع عقار لشخص آخر بسعر أقل بـ10 مرات من سعره الحقيقي».

«حفظ نظام» و«مهام خاصة»

في الآونة الأخيرة، ظهرت مهام جديدة لـ«الهيئة الشرعيّة»، تتمثّل في فضّ التظاهرات والاعتصامات المناوئة لها في المناطق «المحرّرة». فقد شهدت الأشهر الماضية العديد من التظاهرت في عربين وكفربطنا وبيت سحم، لتفاجئ «الهيئة الشرعيّة» المتظاهرين بكتيبة «حفظ نظام»، تولّت مهمة فض التظاهرات وملاحقة المتظاهرين والتحقيق معهم، إلا أن «التهمة كانت جاهزة مسبقاً ومثبّتة على المتظاهرين، على صفحة الهيئة الشرعيّة على «فايسبوك»، وهي أنهم عملاء للنظام. بينما هم في الحقيقة من أهالي الغوطة الذين ضاقوا ذرعاً بممارسات الهيئة وجيش زهران علوش»، يقول أحد المتابعين.
أما كتيبة «المهام الخاصة»، فتمثّل جهازا أمنيا عسكريا، يقوم بعمليات دهم ومهاجمة أفراد أو مجموعات مسلّحة، بتهمة اللصوصيّة وقطع الطريق. وحدث ذات مرّة، أن قامت الفرقة الثانية من «المهام الخاصّة»، في المنطقة الجنوبية، بحملة مداهمات واعتقالات لمجموعات تابعة لـ«لواء الحجر الأسود» الذي يتزعمه شخص يدعى بيان مزعل، وطالت هذه العملية منطقتي ببيلا ويلدا، حيث دهمت مقرات تابعة للواء. وجاءت العمليّة، بحسب بيان صادر عن «المهام الخاصة»، «بعد الشكاوى المتتالية من المدنيين، بسبب التجاوزات الكبيرة والتعدي على الممتلكات، وأيضاً حالات الخطف التي طالت مدنيين وغير مدنيين، وكان آخرها خطف قائد إحدى المجموعات من الجيش الحر وتم العثور على كميات من المواد المخدرة المعدّة للبيع والتجارة».