دمشق | يشكِّل حيّ «ركن الدين» أكبر معاقل الأكراد في العاصمة السورية، ويعود الأصل التاريخي لوجود بعض الأكراد فيه إلى الحقبة الأيوبية، أي منذ ما يزيد على 800 عام. أما القسم الأكبر من العائلات الكردية، فقد توافدت إليه إبان فترة الحكم العثماني لبلاد الشام، بالترافق مع وفود الحج الآتية من الجنوب التركي آنذاك. وحتى منتصف القرن الماضي، كان يطلق على الحي اسم «حارة الأكراد»، إلى أن غيّرت حكومة الوحدة السورية ــ المصرية الاسم ليصبح ركن الدين. غير أن الأكراد رفضوا الاسم الجديد وواجهوه بصلابة في ذلك الحين. ويروي كبار السن من سكان الحي كيف «كان يتعرض سائق الحافلة للضرب من السكان إذا دخل الحي وهو يرفع لافتة ركن الدين، وكذلك من الأجهزة الأمنية إذا نزل إلى مركز العاصمة وهو يرفع لافتة حارة الأكراد». ولكن، رغم ذلك، لم يكن للأكراد الدمشقيين نصيب وافر من صورة «الكردي المشاكس».أما المعقل الآخر، فهو في وادي المشاريع (غربي دمشق)، إحدى أكثر المناطق اكتظاظاً بالعشوائيات، والذي يضم غالبية الأكراد الوافدين من منطقة الجزيرة ومناطق الشمال السوري منذ أقلّ من ثلاثين عاماً. ولهذا لحي روايته الخاصة، فعندما بدأ الوافدون إليه بمحاولاتٍ لتعمير مساكن تؤويهم، دخلوا مع السلطات في «لعبة القط والفأر». ويروي م. أومري، أحد سكان الحي، قصة التعمير: «عندما قررنا بناء منازل لنا في الليل، كانت البلدية تأتي نهاراً لتهدمها، وعندما عمّرنا في النهار، هدموا في الليل، هكذا حتى ملَّت الدولة من إصرارنا». لذلك، لا يزال الأكراد من سكان الحي يطلقون عليه اسم «زور آفا»، والتي تعني بالعربية «بالغصب عمرناها».
في الانتماء السياسي، يحمل سكان وادي المشاريع (أو زور آفا) السمة العامة للانتماء السياسي الغالب في المناطق الشمالية من سوريا. فيما ينقسم أهالي ركن الدين في انتمائهم إلى شيوعيين بشكلٍ أساسي، أو «إسلامٍ معتدل»، وهو الإسلام الذي حمل رايته عند الأكراد الشيخ الراحل أحمد كفتارو، المفتي العام السابق لسوريا، والشهيد محمد سعيد رمضان البوطي. ويعود هذا التقسيم إلى «أن الأكراد جزءٌ لا يتجزأ من سوريا، التي كان ينقسم الصف الوطني فيها ما بين اليسار والإسلام المعتدل، وهذان كانا التكتلين الاجتماعيين الأكثر تقبلاً للأكراد، بحكم ترفعهما عن الخلافات القومية التي حالت دون انخراط الأكراد في باقي الأحزاب السياسية، إلا في ما ندر»، بحسب سعيد ظاظا، الطالب الكردي في جامعة دمشق.
وللأكراد نصيبٌ، كما لباقي السوريين، من مقاومة الاحتلال الفرنسي. فأسماء كأبي دياب البرازي، المشهور بمحاولته اغتيال المندوب السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو، وإبراهيم هنانو، وهو واحدٌ من أهم زعماء الثورة الوطنية ضد الفرنسيين، لا تكاد تغيب عن بال أكراد دمشق.

خلافٌ داخلي... ومع النظام

أغلبية الأكراد الدمشقيين لا يجيدون اللغة الكردية. ذاب هؤلاء في البيئة الدمشقية حتى النخاع، وهو ما جعلهم، بحسب وصف بعض الأكراد لهم، «ذوي أصول كردية لا أكثر». وكانت هذه المشاحنات تزداد، لا سيما حين تكثر النزاعات بين النظام والأكراد في سوريا، فيما يحافظ أكراد دمشق على دمشقيتهم بعيداً عن النزاعات.
ويعود الاحتقان بين الأكراد (خصوصاً سكان الشمال الشرقي) والنظام إلى ما بعد عام 2004. حين واكبت محافظة القامشلي الخلاف بين الأكراد المشجعين لفريق كرة قدم، والعرب المشجعين للفريق المضاد، وقد انتهت حينها بتوتر أمني دام، ما لبث أن انتقل إلى دمشق. فلاقى سبيله إلى وادي المشاريع، حيث اعتقل الأمن عدداً كبيراً من الشبان الأكراد، فيما لم تتأثر بيئة ركن الدين بشيءٍ يُذكر. ويرى الناشط السياسي المعارض م. أورفلي أنّ القضية «أكبر من أن تكون مجرد خلاف على مباراة كرة قدم، إذ تعود جذور الاحتقان إلى عام 2003، حين ازدادت مخاوف النظام منا على إثر التجربة العراقية، وما رافقها من موقفٍ للأكراد هناك مغاير لموقف السلطات السورية. فتم التعامل مع كل الأكراد بالطريقة نفسها، علماً أن أكثريتنا كانت ضد المشروع الأميركي الساعي الى تفتيت وحدة العراق».
أما مشاكل أكراد دمشق مع النظام فتجسدت في قضية عيد النيروز (أو النوروز). طالب الأكراد بيوم عطلة في المناسبة، كونها تشكل أول أيام الربيع والتقويم عندهم، بالإضافة إلى الطقوس الخاصة بقصة «الحداد الكردي كاوا، الذي ثار على الملك الظالم سوحاك، فأضرم في قصره النار»، فكان أن ضيَّقت الأجهزة الأمنية الخناق عليهم أكثر، مما أجبرهم على الخروج سنة 1986 في تظاهرة حاشدة قمعت قبل وصولها إلى القصر الجمهوري. وعلى إثرها أصدرت السلطات قراراً بالعطلة يوم 21 آذار من كل سنة، ولكن المناسبة كانت، حسب القرار: الاحتفال بعيد الأم... وهو ما أثار حفيظة الأكراد أكثر، لكن هذه المرة من دون مشاكل تُذكر.
اليوم يتماثل الأكراد، الدمشقيون وغيرهم، مع باقي السوريين من حيث انقسامهم السياسي خلال الأزمة، «فهناك منا من حمل السلاح، وقاتل إلى جانب النظام، ومن نَشطَ في الأزمة فخرج في التظاهرات. غير أنه، بمعزل عن الأحزاب السياسية، لم تعد تريد غالبيتنا سوى خروج البلاد من أزمتها، ووقف العنف الدامي».
إلا أن ما يفاقم أزمتهم أكثر هو انقسامهم الآخر ما بين مؤيدٍ لفكرة الإدارة الذاتية أو الانفصال عن المجتمع السوري، باعتباره «غرب كردستان»، وما بين مُطالبٍ بالإبقاء على الاندماج في المجتمع السوري، مع المحافظة على الحقوق الثقافية للأكراد، بما فيها تدريس اللغة الكردية والاعتراف بها رسمياً. هنا يرى مثقفون أكراد أن أفكاراً كـ«المشرقية الجديدة» يمكنها أن تشكِّل «حلاً للقضية الكردية رغم كل الخلافات الحاصلة في صفوف الأكراد، فيما لو وسَّعت بيكارها قليلاً وخرجت عن منطق تعريب المشروع، فنحن أيضاً من مكونات الشرق المتعدد القوميات».