شيئاً فشيئاً، تحوّل السوريون إلى مجرد أرقام «صماء» يجري استثمارها، واستغلالها، والتلاعب بها، دون أدنى اكتراث لما تمثله من قصص إنسانية مؤلمة. فخلف كل رقم تقف عائلات كثيرة تعاني شدة الفقد، وقسوة الجوع والفقر، ومرارة النزوح والتشرد. وربما الأرقام الكثيرة المتباينة لضحايا الحرب، واللاجئين والمهاجرين، تحكي بعضاً من فصول «مسرحية» صناعة الحقائق الكاذبة.فمنذ الأيام الأولى للأحداث، أمسك كل طرف بعدّاده الخاص، وأخذ يقلب أرقامه بما يخدم غايته وهدفه، بدءاً من عدد المتظاهرين، إلى المنشقين عن المؤسسة العسكرية، فضحايا كل يوم، إلا أن ذلك لم يحل دون ظهور بعض المحاولات الجادة لباحثين واقتصاديين، كان جل همهم تقديم رقم إحصائي يحاكي الواقع، ويمكن الاستناد إليه في تتبّع آثار الكارثة على الصعيد الإنساني والاقتصادي.

أرقام كثيرة... لكن!
زهاء 600 ألف شخص ما بين مفقود وشهيد وقتيل

وفيما لم يصدر إلى الآن أي رقم رسمي سوري عن عدد ضحايا الحرب، حفلت السنوات الخمس الماضية بعشرات الأرقام والتقديرات الصادرة عن جهات عدة، محلية وإقليمية ودولية، إلا أن معظمها بحسب المدير العام السابق للمكتب المركزي للإحصاء الدكتور شفيق عربش «لا يمكن الاستناد إليها لتحديد حجم الخسائر البشرية، وذلك بالنظر إلى الأوضاع الحالية التي تعيشها البلاد، إذ لا توثيق لأعداد الذين قضوا جراء هذه الحرب، سواء بالنسبة إلى السوريين أو الإرهابيين الأجانب، فهناك معايير يجب اعتمادها لتحديد الصفة، التي يجب إعطاؤها للضحايا، من قبيل هل هو شهيد، أم لا يزال مفقوداً، أم هو قتيل...الخ». وأضاف في حديثه لـ«الأخبار» أن «كل هذه الأمور تدفعنا إلى الشك بدقة الأرقام المعلنة، وأنا أتصور أن الأرقام أكبر بكثير مما تروجه بعض الجهات، كالأمم المتحدة مثلاً، وتصوّر أن هناك ما يقرب من 600 ألف شخص ما بين مفقود وشهيد وقتيل».
أخيراً، ظهرت للعلن ثلاثة تقديرات للخسائر البشرية، الأول تضمنه تقرير للمركز السوري لبحوث السياسات، جاء فيه أن «نتائج مسح حالة السكان، الذي أجري في منتصف 2014، أشارت إلى أن 1.4% من السكان فقدوا حياتهم، 11.4% منهم أطفال، ما رفع معدلات الوفيات من 4.4 بالألف عام 2010، لتصل إلى 10.9 بالألف عام 2014». وأشار إلى أنه «بحلول نهاية عام 2015، يصل عدد الجرحى إلى 1.88 مليون شخص، كذلك يُقدَّر أن نحو 11.5% من السكان تقريباً داخل سوريا تعرضوا للقتل، أو الإصابة، أو التشوّه نتيجة النزاع المسلح».
أما ثاني التقديرات، فقد جاء من مركز استشاري أوسترالي، أكد فيه سقوط نحو «470 ألف قتيل، من بينهم أكثر من 11 ألف طفل»، مشيراً إلى «تراجع متوسط عمر الفرد المتوقع بنحو 15 عاماً». ثالث التقديرات أطلقته 30 هيئة إغاثية، وقالت فيه إن العام الخامس من عمر الحرب السورية سبّب فقدان 50 ألف شخص لحياتهم. ومن المتوقع أن تعلن جهات أخرى درجت دورياً على نشر بيانات إحصائية تتعلق بجوانب مختلفة لتأثيرات الحرب على حياة السوريين، كلجنة (الإسكوا)، و«المرصد السوري لحقوق الإنسان» المعارض، وغيرهما.
وباستثناء التقديرات التي أعلنها أخيراً المركز السوري لبحوث السياسات، واستند فيها إلى نتائج مسح السكان الذي نفذ في أواسط عام 2014 وشمل مختلف المناطق السورية، تبقى مصادر التقديرات الإحصائية الأخرى غامضة، أو لا تخرج عما تنشره صفحات التواصل الاجتماعي، وما ينقله «المراسلون المتعاونون» مع بعض الجهات والمنظمات الخاصة من معلومات، بعضها يتعلق بأسماء أشخاص نَعَتْهم رسمياً الجهات التي ينتمون إليها، وبعضها الآخر عبارة عن تقديرات ذات طابع شخصي مشكوك في صحتها، وتسريبات يشوبها عدم الدقة والعشوائية، ولا سيما في ضوء ما يكتنف المعارك ونتائجها من سرية وغموض، سواء لدى الجيش السوري أو مختلف المجموعات المسلحة، والتنظيمات المصنفة إرهابية.
يصنف حسين الإبراهيم، وهو أحد رواد الإعلام الإلكتروني في سوريا، الأرقام التي تنشرها صفحات التواصل عن عدد الضحايا في أربعة نماذج: «الأول يعتمد على الشائعات التي تتناقلها الصفحات دون إشارة إلى مصدر موثوق أو إلى مرجعية رسمية. والثاني يعتمد على معلومات تتناقلها الأطراف المتحاربة، ويتحدث فيها كل طرف عن تكبيد الطرف الآخر أرقاماً كبيرة من الضحايا دون ذكر الأسماء. والثالث يعتمد على التوثيق من مصادر متعددة معلنة ويُقرن أرقام الضحايا بأسمائهم وربما انتماءاتهم. أما الرابع، فتنشره مراكز أبحاث، كمركز فيريل الألماني، وهي مراكز تستقي معلوماتها من مصادر متعددة، تحرص فيها على الوصول إلى أرقام حقيقية». ويخلص الإبراهيم في حديثه لـ«الأخبار» إلى أن «الأرقام التي تنشرها صفحات التواصل الشخصية أو التي تنتمي إلى أحد الأطراف المتقاتلة، ليست صحيحة بالضرورة، ولا يمكن اعتمادها مصدراً لمعرفة عدد الضحايا، إلا إذا كانت صادرة عن مراكز دراسات».

خلط متعمد

وجود المقاتلين الأجانب، وما يلحق بهم من خسائر كبيرة، يرفع من مستوى الشكوك حيال دقة معظم التقديرات الإحصائية المعلنة، ويطرح تساؤلات عن المنهجية العلمية المتبعة التي تتيح لمعدي تلك التقديرات تمييز الضحايا أو القتلى تبعاً للجنسية السورية أو الأجنبية، ولا سيما أن بعض الجهات الإقليمية والدولية تحرص على هذا الخلط، لمزيد من التهويل والضغط السياسي والإعلامي، وهذا يعني إضافة مهمة أخرى يفترض بعملية توثيق وتدقيق الأرقام والتقديرات الإحصائية تجنبها وتعريتها.
وتأكيداً لخطورة ذلك الخلط، الذي تسعى إليه بعض الجهات، نشير إلى ما نشره أخيراً مركز فيريل للدراسات في ألمانيا حول أعداد القتلى الأجانب في سوريا، إذ أوضح أنه منذ نيسان عام 2011 ولغاية نهاية الشهر الأول من العام الحالي، وصل عدد القتلى الأجانب إلى نحو 52 ألف مقاتل، ينتمون إلى 19 جنسية عربية وأجنبية، وذلك من أصل 360 ألف مقاتل أجنبي دخلوا إلى سوريا لقتال الجيش السوري.
بناءً على ذلك، إن الحصول على بيانات إحصائية موثقة، يبدو أمراً مؤجلاً إلى حين انتهاء الحرب، وهذا ما يذهب إليه الدكتور عربش بتأكيده أنه «لا يمكن إحصاء ضحايا الحرب بدقة ما لم تدخل البلاد في مرحلة الاستقرار وانتهاء الأعمال القتالية بالكامل، وأتوقع آنذاك أن تظهر أمامنا كثير من القضايا، التي لم نكن نتصورها». وهذا يبدو أيضاً ما خلصت إليه المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عندما أوقفت قبل نحو عامين جهودها لحصر أعداد الضحايا، بسبب «الوضع المعقد وصعوبة الوصول إلى مناطق القتال».