تحت الطبع، الآن في باريس، كتاب جديد بعنوان «الاستخبارات الفرنسية والتحديات المقبلة». وهو عبارة عن مقابلة طويلة مع المدير السابق للأمن الداخلي الفرنسي برنار سكوارسيني اجراه احد صحافيي موقع «مرصد» المتخصص في شؤون الامن والدفاع.
الكتاب الذي يبصر النور نهاية العام الجاري هو جزء من حراك سياسي هام يعتمل داخل ادارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند وحزبه الاشتراكي الفرنسي، وفي اوساط نخبوية سياسية وامنية ذات صلة بهما. والهدف من هذا الحراك محاسبة قصور السياسة الخارجية الفرنسية، انطلاقاً من حزمة اخطائها على أكثر من مستوى، أبرزها: إساءة استثمار معطيات أجهزة الأمن الفرنسية وتوظيفها في تبرير شن حروب زائفة وخدمة مواقف سياسية مسبقة، كما في احداث 21 آب الماضي حول الهجوم الكيميائي المزعوم في الغوطة الشرقية السورية. وسوء تقدير الادارة السياسي الخارجي، وفي قلب موقفها من الازمة السورية.
ويحدّد هذا الحراك ربيع العام المقبل موعداً للتغيير المرتقب في السياسة الخارجية الفرنسية، والذي سيطال أيضاً رأس هرمها المتمثل برولان فابيوس. إذ ان هذه الفترة ستشهد اجراء الانتخابات البلدية الفرنسية وانتخابات البرلمان الاوروبي، ما يفتح الباب واسعاً امام تعديل حكومي يقصي فابيوس ويحل مكانه، بحسب الترجيحات، هوبير فيدرين صاحب النظرية الشهيرة: «من الغباء عدم التحدث مع سوريا».


سكوارسيني

يركز سكوارسيني في الكتاب على فكرة اساسية، وهي كيف جرى إساءة استخدام تقارير الامن الفرنسي في احداث21 آب في ريف دمشق لتبرير شن حرب على سوريا من جانب الولايات المتحدة. وهو يقدم «تحليلاً تفكيكياً» للوثيقة التي قدمها رئيس الحكومة جان مارك ايرولت، في 2 ايلول الماضي، الى لجنة الدفاع والخارجية في البرلمان تحت عنوان «تقرير استخباراتي غير سري»، وفيه معطيات عن حصول هجمات ليل 21 آب بالاسلحة الكيميائية في منطقة الغوطة الشرقية.
وتستند المعطيات الى معلومات مقدمة من الاستخبارات الخارجية والعسكرية تتضمن خمسة عناصر تدين النظام السوري، ابرزها:
1- ان المناطق التي تعرضت للهجوم الكيميائي كما عرضتها الصور الفضائية كانت تحت سيطرة الثوار.
2- ليس لدى قوات المعارضة إمكانات شن هجمات واسعة ومنسقة ولا سيما ان المدافع المستخدمة في الهجمات من نوع صناعي.
3- البرنامج المكثف للكيميائي السوري سمح للنظام باستخدام هذا السلاح.
4-هجوم 21 آب كان واسعا وكثيفا خلافا للهجمات السابقة، وذلك بهدف التقدم الميداني.



ردود سكوارسيني

ويفصّل سكوارسيني، في مقدمة الكتاب التي وضعها، ملاحظاته على الوثيقة. فيؤكد انها ليست صادرة عن الأجهزة الامنية الفرنسية مباشرة، وانما تعتمد على تقرير مكتوب من قبل السكرتاريا العامة للدفاع والأمن الوطني التابعة لوزارة الدفاع، استناداً إلى ملاحظات وضعتها الاستخبارات الخارجية والاستخبارات العسكرية. ويوضح «ان السكرتاريا العامة ليست هيئة مشرفة على نشاط اجهزة الاستخبارات، اذ ان الاخيرة ترفع تقاريرها مباشرة الى السلطات التنفيذية، وهي عموماً تتحفظ عن نشرها او تحديد مصادرها».
أما النقطة الثانية التي يركز عليها فتتعلق بمضمون الوثيقة التي تقع في تسع صفحات، اربع منها تتحدث عن القدرات الكيميائية السورية، وهي معلومات معروفة وليست سرية. واربع مخصصة لصور واحصاء عن الضحايا، وصفحة واحدة فقط تتحدث عن الهجوم الكيميائي المزعوم. علما بأن هذه الصفحة المفترض انها جوهرية لاثبات ادانة النظام بالادلة المعلوماتية، تبدأ بعبارة «في تقديرنا». ويوضح: «من المتعارف عليه ان استخدام هذه العبارة يشير الى فرضيات وتحليلات. كما ان الكلام في الصفحة الاخيرة عن جمع عملائنا لعينات يعني ان المعارضة السورية هي التي أرسلت لنا هذه العينات المجمّعة من الميدان»(!) . و«يمكن ان نفهم ان تنصت اجهزة الاستخبارات هو ما أتاح لها الحصول على هذه المعلومات من دون تحديد هوية الجهة الفاعلة.
وعندما نتحدث عن «معلومات موثوقة من اطراف حليفة» نستنتج ان المقصود هي الاستخبارات الاميركية والبريطانية والتركية».
ويخلص سكوارسيني إلى الاستنتاج مما تقدم بأن «هذا التقرير يجمع معطيات عن معطيات، وهي غير كافية للاثبات بشكل قاطع بضرورة الرد عن طريق قصف سوريا». بشكل اوضح، يضيف سكوارسيني متسائلاً: «هل يمكن القيام بحرب استنادا فقط الى تقديرات وتحليلات؟».


محاكمة سياسية

ويشير سكوارسيني إلى ان هناك أسئلة كثيرة مرتبطة بهذا التقرير وبتحريضه على الضربة المرتقبة، «فأصدقاؤنا الأميركيون يكررون انهم لا يريدون اسقاط النظام السوري. وكلنا يتذكر انه منذ تموز 2011 كان (الرئيس الاميركي باراك) أوباما و(الرئيس الفرنسي السابق نيقولا) ساركوزي و(رئيس الحكومة البريطانية دايفيد) كاميرون ينادون برحيل (الرئيس السوري بشار) الأسد (...). وصيف 2012 أعلن فابيوس ان الاسد يجب ألا يكون موجودا، علما بأن كل القنصليات الغربية في الشرق الأوسط تدرك ان الحل العسكري غير ممكن، وهناك ضرورة للعودة الى طاولة المحادثات، وبالتالي لماذا علينا التورط في مغامرة عسكرية؟».
ويتابع سكوارسيني محاكمته السياسية: «في صيف 2011 أعفى الغربيون كوفي كوفي أنان من مهامه كموفد اممي للازمة السورية لانه نصح بضم ايران الى المحادثات. وهؤلاء يعلمون اليوم ان اطلاق جنيف 2 و3 في حاجة للعودة الى خطة انان، خصوصاً شراكة ايران في المفاوضات».
ويستنتج ان «هذا الفشل السياسي ــــ الدبلوماسي يستدعي طرح بعض الأسئلة حول التقرير وأبعاده: هل قامت السكرتاريا العامة للدفاع والأمن الوطني بالتلاعب بالمعطيات اثناء كتابة التقرير (...)؟، والتلاعب قد يحدث نتيجة مقص الرقيب (...) الذي يزيل المعطيات المنافية لموقف المسؤولين السياسيين. ويحدث التلاعب أيضاً بسبب قناعات شخصية لاحد المسؤولين في السلطة لأسباب سياسية (...)».
ويضيف: «أرى ضعفا في ادارة المعلومات والاتصالات الحكومية والتي تمتاز بها طريقة هولاند في حكم البلاد، وهي طريقة مبنية على فرضيات مسبقة (...) وكذلك المبالغة في الثقة الموروثة من الحرب في مالي، ومن ضغوط أجندة سياسية».
ويلفت سكوارسيني إلى أن التاريخ «سيكتب الحقيقة ذات يوم، وستكون سمعة الاستخبارات الفرنسية على المحك»، ملمحاً الى ان الخطأ الفرنسي لن يمر من دون مساءلة، حينما يكشف عن «دراسة برلمانية طموحة حددت، أخيراً، أوضاع المؤسسات الامنية الفرنسية وسبل تحصينها من التوظيف السياسي». ويضيف: «ان قضية تقرير السكرتاريا العامة تستدعي أيضاً مراجعة الأسباب: فهل يجب استخدام المعلومات الأمنية من اجل تبرير شن الحروب؟!، علما ان كل المصادر الدراسية تشير الى ضرورة استخدامها لمصلحة الامن الوطني الفرنسي». ويختم باشارة إلى ان «هناك دعوة اليوم للتفكير بإصلاح هذا الوضع».

فابيوس

تعتبر عبارة سكوارسيني الأخيرة، بمثابة كلمة السر الشائعة ضمن الحديث السائد في فرنسا عن «ربيع التغيير السياسي» في ادارة هولاند وسياسته الخارجية. وتعتبر إقالة فابيوس أبرز تجسيدات هذا التغيير الذي بات منتظرا من قبل أوساط واسعة في الحزب الاشتراكي ونخب أخرى ذات صلة به. وفي نظر مصادر متابعة، فان فابيوس بدأ فعليا رحلة خروجه من وزارة الخارجية ومن معادلة القرار في الحزب. وتدلل على ذلك جملة معطيات:
اولاً، عندما سمي فابيوس لوزارة الخارجية كان يمثل تيارا داخل الحزب الاشتراكي، واليوم لم بعد يملك هذه الصفة، نظرا لانفضاض «جماعته» في الحزب من حوله.
كما يواجه غربة وسط المتخصصين في وزارة الخارجية بالشؤون العربية الذين يبدون عدم فهمهم لموقفه من سوريا.
ثانياً، تردي علاقته بالخلية السياسية في الاليزيه، خصوصاً مع ايمانيل بون مستشار الشؤون العربية وبول جان رئيس هذه الخلية والمستشار الدبلوماسي لهولاند.
ثالثاً، يعاني فابيوس من حصار حتى داخل وزارة الخارجية، حيث بات يعمل وحيدا مع مجموعة منفصلة يتشارك معها المكابرة في رفض احداث تغيير في سياسة فرنسا تجاه سوريا. وتتمثل هذه المجموعة اساسا بكل من السفير أريك شوفاليه وجان بيار فوليه.
وتحاول هذه المجموعة مقاومة سقوطها، من خلال ابتداع اقتراحات بين الفينة والاخرى غايتها اثبات ان خيار اسقاط النظام في سوريا لا يزال يملك حيثيات عملية وواقعية. وآخر محاولة في هذا السياق، تمثل باقتراح قدمه شوفاليه قبل ايام لهولاندلمناسبة البحث عن وفد فاعل للمعارضة السورية يشارك في مؤتمر«جنيف 2» المنشود. وينص الاقتراح على تشكيل محور يتكون من الضابط المنشق مناف طلاس ووزير المصالحة الوطنية علي حيدر وعلي دوبا. وفي نظر احد اعضاء الحزب الاشتراكي، فان هذا الاقتراح الذي يعكس جهل شوفاليه بأسماء الاشخاص الثلاثة، يقدم مشهدا قاتما لما وصل اليه فابيوس ومجموعته في لعبتهم لفعل اي شيء من اجل البقاء على قيد الحياة السياسية.