لا يختلف عاقلان، عارفان بشؤون بلاد الشام، على أنّ الإمرة في الميدان السوري المعارض للنظام هي للجهاديين الإسلاميين. تنظيم هؤلاء وخبرتهم القتالية منحاهم الغلبة على بقية فصائل المعارضة المسلّحة، ومنحا مشروعهم «إقامة الدولة الإسلامية على منهاج النبوة وحاكمية الله في الأرض» فرصة حقيقية، في مقابل ضياع مشروع المعارضين المشتتين المنادين بالدولة المدنية.
ولا يختلف اثنان، أيضاً، على أنّ الخلاف المستجدّ بين أُمراء «القاعدة» على أحقيّة القيادة والإمارة منذ نيسان الماضي، يصبّ في خدمة النظام. ورغم ظهور ذلك جلياً في ساحات القتال، أعيا داء السلطة والإمارة، ولا يزال، المصلحين من «قادة الجهاد» الذين توافدوا للتقريب بين «أمير جبهة النصرة الفاتح أبو محمد الجولاني» و«أمير الدولة الإسلامية في العراق والشام أبو بكر البغدادي». وكذلك بين زعيم «القاعدة» الشيخ أيمن الظواهري والبغدادي الذي بات أتباعه يُطلقون عليه رسمياً لقب «أمير المؤمنين». لم تُفلح محاولات المصلحين، وجزء لا بأس به منهم مقيم في لبنان، في سحب النزاع من التداول الإعلامي بعد استحالته مناظرات صوتية عبر رسائل مسجّلة على هيئة ردّ وردّ مضاد. بل تُسجّل نقطة لـ«جبهة النصرة» التي صمتت، رغم استيلاء مقاتلي «الدولة» على مقارّ ومستودعات أسلحة وذخيرة عائدة لها في حلب والرقة. عدا عن سكوت أتباع الجولاني عن استيلاء «الدولة» على بئر نفط كانوا يسيطرون عليها في دير الزور، لتفادي تطوّر الأمر بين إخوة الخط الواحد. وبحسب معلومات الإسلاميين، تمكّن المصلحون من إرساء هدنة مرحلية، خفتت خلالها السجالات الإعلامية. وبعض الاجتماعات عقدها ممثلون عن الطرفين، مع الوسطاء، في لبنان، بحسب مصادر إسلامية.
في موازاة ذلك، جهد أمراء الأحياء لدى كلا التنظيمين في سحب نقاش «أحقية الإمرة» من بين العناصر، ولا سيما بعد انعكاسه فرقةً بين المسلّحين الإسلاميين الذين انقسموا إلى معسكرين، يتّهم كل منهما أمير الآخر بـ«خطيئة الخروج عن طاعة الأمير». فالجولاني خرج عن طاعة أميره البغدادي لمّا لم يُذعن لإعلان اندماج «الجبهة» و«دولة العراق» تحت مسمّى «الدولة الإسلامية في العراق والشام». وبدوره، خرج البغدادي عن طاعة أميره الظواهري عندما رفض إلغاء الدمج وإبقاء القديم على قدمه. محاولات لملمة الخلاف نجحت جزئياً بين حملة السلاح، بعدما ترافقت بـ«فتاوى تشدد على حرمة إهراق الدم المسلم»، ورواج مقولة «تقديمُ الكبار العقلاء، وتأخيرُ الصغار الذين تشتعل بهم الفتن». غير أنّ الخلافات انتقلت من ميادين السلاح إلى منتديات النقاش والإعلام. واستعاض البعض عن التصريح بالتلميح، فوُجّهت سهام النقد إلى كل من «الجبهة» و«الدولة» من دون تسميتهما، فيما اختار آخرون تسمية الأمور بمسمياتها من دون أن يعبأ بشعارات «وحدة الصف وانفراط العقد». وجاء أكثر هذه النقاشات حدّة في رسالة عُنوِنت بـ«من مجاهد إلى الشيخ أيمن الظواهري». انطلق المُرسِل فيها باعتذار من مخاطبته أميره علانية بعدما ضاقت به السُبل لإيصال صوته. وخاض بعدها في ما سماه «إمارة السُّفهاء». لم يُسمِّ المرسِل الذي وقّع رسالته باسم «أبو بكر الدمشقي» جهة محددة بعينها، لكنّه لمح إلى الممارسات التي تُرتكب في المناطق الخاضعة لسيطرة مقاتلي «داعش». وتحدّث عن «غلاظة وسطوة لدى الجهة الحاكمة تتسبب بنفور كثير من المسلمين منهم»، مشيراً إلى استسهال إقامة الحدّ والإعدامات الميدانية بشكل عشوائي. وفي السياق نفسه، خاض آخرون في «توافر شروط بيعة أبو بكر البغدادي إماماً»، مشككين بتوافرها ولا سيما لجهة «غياب شرطَي وجوب التمكين في الديار ومبايعة أهل الحل والعقد من قادة الجهاد له». وتحدّثوا عن «انحراف الدولة عن المنهج بممارساتها» واتّهامهم لها بـ«التسبب بتشكيل الصحوات نتيجة أفعالها».
كذلك يؤخذ على أنصار البغدادي مبايعتهم لرجل مجهول الهوية. وانعقاد البيعة، بحسب الجهاديين، تشترط الإشهار والمعرفة. لذلك نشط المناهضون للدولة في بثّ حملات التشكيك بجواز البيعة. وإزاء ذلك، أصدرت «الدولة الإسلامية» ملخّصاً عن سيرة حياة «أمير المؤمنين البغدادي». فسردت أصله وفصله، مروراً بمآثره وسعة علمه واطّلاعه في المجال الديني والشرعي، لسحب الذرائع من المشككين.
كذلك ردّ أنصار «الدولة» على الاتهامات الموجهة إليهم، فاستعادوا الأحاديث النبوية، لإثبات مشروعية دولة البغدادي وصحّة بيعته، مشيدين بسعيه لإقامة الخلافة الإسلامية. وبرّروا القسوة بـ«ضرورة وجود سلطان قاهر قائم بأمر الدنيا والدين يُخضع الأقران». وذكّر أحدهم بأن «بن لادن كان زعيم تنظيم جهادي في أفغانستان من بين ثلاثة وعشرين تنظيماً، لم يخضع له الكثير إلا بعدما أحدث أثراً غيّر مسار التاريخ، وهذا من سنن اجتماع البشر، مؤمنهم وكافرهم». ليس هذا فحسب، بل نُشرت في المنتديات الجهادية كُتب للشيخ أبي همام الأثري تُشجع المقاتلين الإسلاميين على بيعة البغدادي (كتاب «مدّ الأيادي لبيعة البغدادي» نُشر على منتدى «التوحيد والجهاد»، وكتاب «موجبات الانضمام للدولة الإسلامية في العراق والشام» نُشر على شبكة «المأسدة»). وشهدت حسابات بعض الجهاديين المنتمين إلى كل من «الجبهة» و«الدولة» على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديداً على حساب تويتر، الكثير من الانتقادات والاتهامات التي تطعن بمشروعية بعضها بعضاً وصحة مرجعيته الفقهية. لا بل في بعض الأحيان كان يقوم مؤيد للدولة بالتقليل من قيمة عملية قامت بها الجبهة، مشيداً بتنظيمه عبر استعادة عملية ضخمة سبق أن نفّذها.
رسائل الشكوى الموجّهة إلى الظواهري لم تنته. إذ لم تقتصر على الخلافات القائمة في الساحة السورية. فقد نقلت شبكة «أنا مسلم» نص رسالة من الشيخ أبو بكر الزيلعي المعروف بـ«إبراهيم أفغان» إلى الظواهري، تحت عنوان «إني أنا النذير العريان»، تطرّق فيها إلى «النزاعات الداخلية مع الأمير في حركة الشباب الصومالي»، متحدّثاً عن «انحراف داخلي يُهدد بضياع ثمار التمكين». يُشار إلى أن الزيلعي كان أكثر المقرّبين من الشيخ عبد الله عزّام. وقد رافق بن لادن في جبال تورا بورا أثناء تعرّضها للقصف، علماً بأنّه أوفد في ما بعد من قيادة القاعدة إلى الصومال في أواخر ثمانينيات القرن الماضي لـ«إحياء فريضة الجهاد في الصومال»، حيث افتتح أول معسكرات التدريب هناك.





حزب الله و«النصارى»


تداولت منتديات جهادية رسالة صوتية لـ«أمير كتائب عبد الله عزّام في بلاد الشام» الشيخ السعودي ماجد الماجد، تحت عنوان «نُصِرت يا شام». تطرّق فيها إلى النزاعات القائمة بين الكتائب الإسلامية في سوريا، داعياً إلى «تقديم الانتماء للأمة على الانتماء للجماعات»، باعتبار أن «النزاع فرقة لا يستفيد منها سوى أعداء الأمة الإسلامية». وخصّص الماجد القسم الباقي من رسالته للداخل اللبناني، قائلاً: «لقد أبرأنا ذمَّتَنا، وقدَّمْنا الإعذار»، معتبراً أنّه رغم ذلك لم ينسحب حزب الله من الأرض السورية. وخلص إلى أنّ «حزب الله الإيرانيّ ومصالحَه في لبنان أهداف مشروعة لنا وللثوار»، مضيفاً: «وما وصل إلى مناطقكم من صواريخَ في البقاع والهرمل والضاحية وغيرِها، لم يكن إلا مناوشات». كما وجّه رسائل أخرى؛ إحداها إلى السياسيين، داعياً الى أن يتدخّلوا لسحب مقاتلي الحزب من سوريا لتجنيب لبنان الحرب. وأخرى إلى «تكتلات النصارى التي تصطفّ في صف حزب الله بأن تبتعد عنه صوناً لدماء المسيحيين». وسمّى المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم بالاسم، معتبراً أنّه «يعمل ليلَ نهار في حرب أهل السنّة في لبنان ومطاردتهم وقتلهم واعتقالهم». وختم رسالته بدعوة صريحة إلى «العسكريين من أبناء أهل السنّة» بترك الجيش كون «قيادته عميلة لإيران»، مخاطباً إياهم بـ«إيقاظ ضمائركم وغسل ما مضى بتوبة نصوح ترجعكم جنوداً لأمّتِكم».