حلب | الطريق من حلب إلى السفيرة، الذي لم يكن يتجاوز نصف ساعة، أصبح يستغرق ساعة ونصف الساعة. حواجز ومطبّات وحفر في طريق اضطراري فرضته سيطرة الجماعات المسلحة على جزء من طريق حلب ــ الرقة، عند بلدتي تل حاصل وتلعرن. الطريق البديل يمر بعشرات القرى في منطقة جبل سمعان الجنوبية التي هجرها قسم كبير من سكانها نتيجة اشتداد المعارك في الأسابيع الماضية، فيما بقي فيها شبان «جيش الدفاع الوطني» لمساعدة الجيش في تأمين طريق حلب ــ خناصر ــ حماه الذي يمر عبرها. تقع السفيرة في سهل يطل عليه جبل الواحة الذي يحتضن في سفوحه الجنوبية الغربية سلسلة مصانع مؤسسة معامل الدفاع التابعة للجيش. لها شكل شبه مثلث يستند ضلعه الغربي إلى بلدة الواحة التي تسكنها أسر عمال وموظفي وعسكريي المؤسسة. والى قربها من معامل الدفاع، تكمن أهميتها الجغرافية والعسكرية في وقوعها عند تقاطع بين مطار حلب الدولي (نحو 18 كلم شمال غرب) ومطار كويرس العسكري والمحطة الحرارية التي تغذي حلب بالكهرباء.
المدينة التي تأخرت في الانضمام إلى ركب «الثورة» قرابة عام، حررها الجيش بعد نحو 27 يوماً من المعارك في محيطها، و48 ساعة من الهجوم عليها من ثلاثة محاور بالاشتراك مع «قوات الدفاع الوطني». لم يتوقع المسلحون، ومعظمهم من المتطرفين، أن يكون الهجوم من ثلاثة محاور، بالأخص من محور طريق القبان في الجنوب الشرقي من المدينة، بعدما ركّزوا دفاعاتهم في الجهة الغربية المقابلة لبلدة الواحة.
يؤكد مصدر ميداني أنه في الأيام العشرة الأخيرة قبل تحرير المدينة «خسرنا أربعة شهداء فقط»، وفي العملية الاخيرة «لم نخسر أي شهيد، لكن عدد الجرحى كبير»، مشيراً إلى سقوط «أكثر من 150 قتيلاً من المسلحين».
ويتوقع قيادي في «قوات الدفاع» وجود أنفاق ومخابئ سرية فيها مصابون تعذر إخلاؤهم ومسلحون انقطعت اتصالاتهم بقياداتهم، «لذلك نشر عدد كبير من الجنود والعناصر في كل شارع منعاً لأي حادث يعكر صفو الاحتفال بالنصر».
«ابو علي»، قائد مجموعة في «قوات الدفاع» ترك عمله في الشركة السورية للنفط في حقول الرميلان ليحارب التكفيريين. الرجل الأربعيني يقاتل منذ سنة وسبعة أشهر في مختلف مناطق سوريا، يجزم بأن النصر اقترب «لم يبق إلا القليل، ولن نتوقف إلا في دير حافر (أقصى شرقي حلب، ويؤدي تحريرها إلى إبعاد المسلحين بشكل تام عن مطار كويرس العسكري)». ويضيف: «قدمنا الكثير من الشهداء في خناصر، ولكن هذا واجب علينا من أجل سوريا وحلب ومستقبل أطفالنا». ويكمل: «هؤلاء مخلوقات متوحشة لا يمكن أن ندعهم يغتصبون سوريا».
بدوره، يجزم ربيع، وهو مقاتل في «الدفاع الوطني» في السفيرة، بأن بلدة تل عرن (بين السفيرة وحلب) «استوت، والمسلحون فيها سيهزمون مثل السفيرة خلال يومين على الأكثر».
بين مقاتلي الجيش والدفاع الوطني، تنتشر الروايات حول قائد العملية العسكرية في المنطقة، العقيد سُهيل حسن، الذي سبقه صيته إلى ريف حلب. تروى اليوم عنه الحكايات التي تعكس توقا شعبيا لنوع من البطولة. يُقال إن حسن «رفض تعليق رتبة عميد الى أن يحرر بلدة بنش (شمالي شرقي إدلب) ويقضي على التكفيريين فيها. غير ان الأوامر أتت لإنقاذ خناصر وفتح طريق حلب ــ حماه، فأقسم أن يعود بطائرة من مطار كويرس (الذي يحاصره المسلحون) إلى إدلب».
بالقرب من المصرف الزراعي، يقع منزل «أبو نورس» الذي يصف نفسه بـ «المعارض البنّاء». يعتبر أن الحرية هي إصلاح والتزام بالقانون ومكافحة الفساد. في أيار 2013 رفض ابنه (15 عاماً) أن يعلق المتظاهرون علماً غير العلم السوري على شرفة منزله. فكانت النتيجة 23 قطبة في وجهه بضربة من أحد المتظاهرين.
يقول «أبو نورس» إن «المدينة استقبلت نازحين من حمص وحماه ودرعا، كان لهم دور سلبي بارز في التحضير للتحرك في المدينة التي انحاز غالبية سكانها وعشائرها إلى خيار الإصلاح خلف الرئيس الأسد، إن لم يكن بدافع التأييد فعلى الأقل درءاً لمفاسد الفتنة». وبحسب الرجل، «سُمح لمعارضي النظام بالتظاهر شرط عدم الاقتراب من المراكز الحكومية او حمل السلاح. ولكن شيئاً فشيئاً، ضاعت هيبة الدولة وبدأ المتظاهرون بإرهاب المؤيدين والسكان، وانتهى الأمر بتحويل المدينة إلى مركز أصولي متعايش مع أرباب السوابق، ولم يعد فيها مدني واحد في الشهرين الأخيرين».
الدمار الذي لحق بالمدينة كبير جداً، خصوصاً في محور القتال الغربي، وفي وسطها التجاري. مجلس المدينة كان مقرا مشتركا لـ«جبهة النصرة» و«لواء التوحيد»، أما مبنى مقسم هاتف السفيرة فنال نصيبه من الدمار. برج الاتصالات فقد صحونه اللاقطة ومعدات البث، والماء غمر الدارات بارتفاع متر.
قبل الأزمة بسنتين، كان هناك اهتمام حكومي بتطوير المنطقة. فقد قلبت قنوات الري التي جرّت مياه الفرات إليها حياة الأهالي في ريف السفيرة، لتتحول المنطقة إلى أهم مركز لزراعة البندورة، وبات لها عيد خاص بها ومعرض لكل ما يتعلق بزراعتها.
اليوم حقول البندورة والباذنجان في ريف المدينة يابسة نسبياً. ينتظر الاهالي النازحون الى الواحة القريبة بدء عودة خدمات الدولة إلى مدينتهم. «سنعود فورا. نحن اهل السفيرة الحقيقيون، نرفض التكفير والسرقة والنهب الذي جلبه مسلحون غرباء وقلة من أبناء المدينة»، يقول محمد الحمادي.
بدورها، تعبّر فيحاء دملخي بغضب: «نحن صدمنا بمستوى اخلاق من يرفعون الاسلام شعارا ويكتبون أحاديث الرسول على الجدران ويضعون عصبات الشهادتين على رؤسهم، ويفعلون ليلا العكس، سرقة وخطف وقهر للناس وتحت تهمة التشبيح يحل المال والعرض وكل شيء»!