دمشق | يضحك محمد م. وهو يسرد قصته مع حافلة النقل الداخلي: «أيام التظاهرات، خرجنا في جمعة سُمّيت جمعة الزحف. كان مفترضاً أن يصل متظاهرون من الغوطة إلى ساحة العباسيين للتظاهر. ذهبت مع بعض الشباب إلى الساحة ننتظر وصولهم، لكن لم يصل أحد. قرّرت العودة إلى منزلي. لحظات وجاءت حافلة ينادي أحدهم بداخلها: حرستا... دوما... بعدما ركبنا في الحافلة ودفعنا التعرفة، قادنا من لم نعرف أنهم أمن إلى أحد الفروع الأمنية»!كان هذا أول عهد السوريين باستخدام حافلات النقل العام في غير الغاية التي اخترعت من أجلها. فمع ازدياد التظاهرات في أيام الجمعة، استخدمت الأجهزة الأمنية بعض حافلات النقل العام لتقل عناصرها إلى أماكن التجمّعات.«أذكر الدهشة التي أصابتنا عندما نزول عناصر أمنية من باصات النقل العام. يومها، اعتبر متظاهرون أن كل حافلة نقل داخلي هي هدف مشروع عندما يحتدم الاشتباك»، يروي حسان ج، أحد المشاركين في تظاهرات حي القابون، ويضيف: «لكن كثيرين منا لم يقبلوا بهذا المنطق. في المحصلة، نحن من سيخسر إذا تضررت هذه الحافلات، وليس النظام».
في بدايات الأزمة، وما رافقها من ارتفاع في أسعار المحروقات، وتكرار تعرض الحافلات للتكسير أو التخريب، كان القطاع الخاص أول من تحسَّس رأسه، فخفض عدد حافلاته العاملة إلى أكثر من النصف، ليبقى القطاع العام شبه وحيد في معركة النقل الداخلي. ومع تحول الحراك الاحتجاجي الى المعارك العسكرية، تم استخدام الجزء الأكبر من حافلات النقل العام لنقل المقاتلين، وهو ما جعلها تتعرض للخطر بشكلٍ أكبر. ويتجنّب كثيرون اليوم استخدام حافلات النقل الداخلي، وخصوصاً من يضطر منهم لسلوك شوارع قريبة من سيطرة المعارضة المسلحة، لأن «المسلحين باتوا ينتظرون الحافلات الخضراء لاستهدافها».
حافلات كثيرة دُمّرت بالكامل أو فُكّكت وبيعت قطعاً. ويكشف موظف في المؤسسة العامة للنقل الداخلي، رفض الكشف عن اسمه، أن «أكثر من مئتي حافلة خرجت من الخدمة. أحياناً تصل الحافلة إلينا محروقة ومدمرة تماماً فيتم إتلافها، وأحياناً تصل متضررة جزئياً فنسارع إلى صيانتها». ويضيف: «هناك أزمة حقيقية ستعاني منها دمشق بعد عودة الحياة الطبيعية»، مرجّحاً أن تضطر سوريا إلى إبرام عقود جديدة للاستيراد، لكن هذه المرة ستزداد الأعباء «فالحافلة التي كلفتنا أربعة ملايين ليرة سورية، ستكلفنا اليوم أكثر من ثلاثة عشر مليوناً نتيجة ارتفاع الدولار».
وقد أدّى النقص الفادح في عدد الحافلات الى أزمة خانقة تعجز الحافلات الصغيرة عن مواجهتها، ما دفع سائقيها الى اقتصار خط سيرها الى نصف المسافة الأصلية. وباتت الرحلة التي كانت تكلِّف المواطن 20 ليرة سورية، تصل اليوم إلى 80 ليرة.
وقد اعتمدت دمشق في النقل الداخلي، حتى أواخر العقد الماضي، على حافلات النقل الصغيرة (12 راكباً) في شكلٍ رئيسي. إلا أن محدودية الخدمة التي تقدمها هذه الحافلات والازدحام المروري الذي تتسبب به بسبب كثرتها، فرضا على الحكومة البحث عن حلولٍ أخرى. فتقرّر الاعتماد على حافلات النقل الكبيرة، التي لم تكن تملك منها سوى 150 حافلة تعمل في دمشق، وأغلبها متهالك. وفي عام 2008، أبرمت الحكومة السورية عقوداً مع شركة صينية لاستيراد 315 حافلة كبيرة (تتسع لنحو 40 راكباً)، لكنها لم تعالج المشكلة في المدينة، التي تحتاج، بحسب التقديرات الرسمية، إلى ما لا يقل عن 2000 حافلة. وعلى هذا الأساس، فُتح باب الاستيراد أمام مستثمري القطاع الخاص لاستيراد 150 حافلة، بجودة أقل، وفرضوا على الركاب تعرفة نقل مضاعفة. وبعملية حسابية بسيطة، نجد أن حافلات النقل العام والخاص لم تستطع أن تلبي أكثر من 24% من حاجة العاصمة. وهو ما يفسر تكدُّس أكثر من مئة راكب في حافلة تتسع لأربعين فقط.