«الحمد لله، يِظْهَر البراد ما صايرلو شَيْ... عَجَبَك؟!»، تقف أم الياس مدهوشة أمام ما بقي من الدار. شظايا أوانيها المنزلية التي طهت لعائلتها فيها سنوات طويلة، تتدلّى من فجوة أحدثها انفجار صاروخ في حائط المطبخ المطلّ على «شارع نجيب محفوظ». بالمناسبة، في بلدة صدد الواقعة في بادية حمص السورية، تسمى أسماء الشوارع باسم زنوبيا، والمتنبي وسليمان العيسى وشهداء البلدة وقديسيها. من يرَ مصيبة غيره من أهلها، تهون عليه مصيبته، وهذا ما حدث لأم الياس تماماً.
على بعد أمتار، دار عائلة سلمى وزوجها وأولادها الثلاثة، التي يزيد عمرها على 70 عاماً والمبنية من التراب والتبن، لم يبقَ منها شيء سوى الركام، «يبقى الدعاء، للسيدة العذراء، وبجاه المسيح، نرجع نعمّر بيتنا متل ما تهدم...». الدمار والخسائر المادية لا يهمان. ما إن أعلن الجيش السوري صدد بلدة محرّرة قبل ثلاثة أيام، حتى بدأ أهلها بالعودة إليها. منهم من ركض في الأزقة سائلاً عن أحبائه وجيرانه المفقودين، ومنهم من دفن جراحه في التراب وذهب يبحث عن إطار ليعلّق صور شهدائه. والمفارقة أن ثلثي سكان البلدة، كانوا قد عادوا حتى ظهر أمس من أماكن نزوحهم في دمشق وحمص. ورغم أنها الآن ثكنة مخيفة للجيش السوري وقوات الدفاع الوطني ومقاتلي الحزب السوري القومي الاجتماعي، فإن شركة الكهرباء بدأت أعمالها لوصل ما انقطع، وكذلك شركة الهاتف ومكتب البريد ومخفر الشرطة. البلدة التي يعود عمرها إلى 1800 عام قبل الميلاد، ومعظم بيوتها ما زالت تبنى من التراب والتبن على الطراز الحديث، لم تكن على خارطة المعارك العسكرية حتى قبل أسبوعين. تعدّ صدد أكبر حاضرة سكانية وتجمّع لطائفة السريان الأرثوذكس في الهلال الخصيب، (تضمّ سبع كنائس: مار تيوادروس، مار ميخائيل، مار مطانوس، مار برصون، مار سركيس، وما جرجس، وكنيسة السيدة العذراء)، وبقيت محيّدة عن المعارك منذ بداية الحرب في سوريا. ولولا أن قرّرت المعارضة المسلّحة احتلال البلدة، لبقيت كذلك.
موقع صدد
لم يعد خافياً أن القصد من وراء هجوم «مغاوير درع الاسلام» و«كتيبة الفاروق» و«أحرار الشام» و«كتيبة نور الحق» و«جبهة النصرة» التي تقود الهجوم على صدد، هو محاصرة أحد أكبر مخازن الأسلحة التابعة للجيش في سوريا، والواقع في خراج بلدة مهين القريبة. ثمّ استعمال صدد، ذات الموقع الاستراتيجي جداً طريق إمداد لقوات المعارضة، إذ تعد من جهة الجنوب امتداداً لبلدة يبرود الخاضعة لسيطرة المعارضة في منطقة القلمون، ومن الغرب منطقة الحسياء والجندر ثمّ السلسلة الشرقية لجبال لبنان، ومن الشمال بلدة الشعيرات التي يقع في خراجها مطار الشعيرات، ومن الشرق بلدتا مهين والقريتين، ثم البادية السورية امتداداً إلى محيط تدمر ومثلث الحدود السورية ـــ العراقية ـــ الأردنية. مساحة صدد، بحسب رئيس البلدية سليمان الخليل تزيد على 179 ألف دونم، وتعداد أبنائها في السجلات يبلغ 13 ألف نسمة، بينما يبلغ عدد سكانها الحاليين 5 آلاف نسمة، إضافة إلى 80 عائلة نازحة من القصير، و40 عائلة من القلمون. مصدر الرزق الأساسي هنا هو الوظيفة العامة وتربية الدواجن، إذ إن المناخ القاري في بادية الشام الذي يحكم صدد، لا يسمح بقيام زراعات.
هجوم المعارضة
فجر الإثنين 21 تشرين الأول، بدأت المعارضة هجوماً ضخماً بأكثر من ألفي مقاتل، مدعومين بسيارات رباعية الدفع تحمل رشاشات متوسطة وصواريخ حرارية. قبل طلوع الضوء بقليل، كمن المسلحون لدورية تأمين الطريق التابعة للحاجز الشرقي للبلدة من جهة مهين وقتلوا عناصرها ثمّ اقتحموا الحاجز. وبالتزامن، عمد انتحاري إلى تفجير نفسه في الحاجز الغربي (ظهر لاحقاً في شريط على موقع يوتيوب، سعودي الجنسية)، وجرى تفجير حفارة الغاز عند الحاجز، ليتقدم المسلحون من الجهات الشرقية والجنوبية والغربية. «يا ريت كان معنا سلاح»، يقول أحد شباب البلدة الذي «تعسكر» في اليومين الماضيين. ظنّ الأهالي أن بقاءهم من دون سلاح قد يبعد عنهم شرّ المجموعات المسلحة، فتبقى البلدة محايدة. ربما لم يكن ذاك قراراً صائباً، إذ سقطت البلدة سريعاً من دون مقاومة أهلية تُذكر سوى من مفرزة الأمن السياسي ومخفر الشرطة، الذي «صفّى» المسلحون أربعة من عناصره أثناء تنظيمهم عمل «سرافيس حمص»، وصمد عنصران ورئيس المخفر مع عائلته مدة ساعة، قبل أن ينسحبوا إلى مفرزة الأمن السياسي، التي قاومت بدورها مقاومة شرسة على ما يقول الأهالي لحين وصول مقاتلين من الدفاع الوطني والقومي السوري. دفعت البلدة 45 شهيداً معظمهم من المدنيين، بينهم ثلاثة مقاتلين هم علاء خشوف، أندريه كرمة وجورج السبعة، و10 مفقودين بينهم أبو وجيه الشيخ وزوجته وابنته وزوجها وولداهما وسعدو الخوري. وبعد ظهر أمس، اكتُشفت بئر قديمة تحوي جثثاً مجهولة الهوية بسبب التحلّل الذي أصابها في الماء، وبدأ الدفاع المدني العمل على انتشالها. يقول المطران مار سلوانوس بطرس النعمة، الذي انتقل إلى كنيسة مار ميخائيل في صدد بعدما انتقلت المطرانية إلى البلدة إثر المعارك في منطقة الحميدية وفي بستان الديوان في حمص، إن «صدد بلدة مسالمة، والمطرانية كانت دائماً تقوم بواجبها بالدعوة إلى المحبة وعدم حمل السلاح، لكن هكذا تكافأ صدد؟ يحتلون بيوتها ويدمرونها ويقتلون أهلها؟». لم يسمح المسلحون لعدد من أهالي البلدة بالمغادرة، «زربونا بالبيت، قال واحد منون إذا بتطلعوا منقتلكم، قلنالو ليش بدك تقتلنا، خلص منضل بالبيت يا أخي»، يقول جوزف. واجه الرجل وعائلته الموت حين طرق المسلّحون على الباب طالبين مفتاح السيارة، «قالولي عيرنا إياها شوي، ولسّا ما رجعوا...». يضحك جوزف حين يخبر كيف أطلت ابنته الصغيرة جورجينا ذات الخمسة أعوام، برأسها من زاوية الباب، لتسأل أحد المسلحين «ليش لابس فستان؟»، في إشارة إلى أحد عناصر جبهة النصرة بعباءته الطويلة، «الحمد لله ما أخذ على حكيها». لم يكن المسلحون بهذا اللطف مع كلّ الأهالي، «تعا تعا يا ابني لفرجيك شو عملوا. كانوا شاحطين ابن عمّي على الدرج، ودمّو عم يشرشر، وهوّي عم يصرّخ، ليك دمو هون، وهون على السّلم، ما استرجيت اطلع... يا حرام، شب»، يقول أبو الياس، الذي فوجئ بعد ساعة بأن المسلحين استطاعوا الدخول إلى داره من فجوة في بيت جاره، وعاثوا فيه تخريباً وسرقة. يسخر الأهالي هنا، «يعطيهن العافية تعبوا، ما تركوا قشّة بالبيوت، لازم يكون اسمهم «جيش الجراد» مو الجيش الحر». بالمناسبة، «الجراد» ليس حكراً على المعارضة المسلحة. فعندما طرد الجيش السوري المسلحين من البلدة، هاجم سارقون بيوتاً بلا سكان، وسرقوا ما بقي فيها، ويؤكّد الأهالي أن الجيش اعتقل بعضهم وأعاد المسروقات إلى أصحابها.
السرعة في الحسم
لم تتأخر القوات السورية في الوصول إلى صدد. تقول المصادر العسكرية هنا إن «موضوع صدد محسوم، ممنوع السيطرة عليها، وكذلك مهين، التي ستتحرر خلال أيام، إن لم يكن ساعات». في اليوم التالي لهجوم المعارضة، دخلت سرايا المهمات الخاصة في القوات السورية وعناصر من الدفاع الوطني والقومي السوري مدعومة بالدبابات وبدأت عملية تحرير البلدة. بدأ تقدم الجيش من الجهة الشمالية، وبعد حدوث الاختراق، بدأ الهجوم من المحور الغربي أيضاً. وحتى مساء أول من أمس، كان أهالي البلدة لا يزالون يبلغون القوات عن وجود جثث تعود لمسلحين تنتشر بين البيوت، وفي البراري القريبة. تقول المصادر العسكرية إن المسلحين فوجئوا بالقوة النارية والسرعة التي تقدم بها الجيش، إذ لم يتمكنوا من بناء التحصينات اللازمة وزرع العبوات الناسفة والأشراك لوقف تقدم القوات الخاصة والدبابات، على الرغم من حيازتهم أسلحة صاروخية حديثة، وقذائف حرارية. بعد تحرير البلدة، تجري أعمال تحصينها على قدمٍ وساق. لم يعد هناك ممرات عشوائية في محيط البلدة تسمح بالوصول إلى أحيائها الكبيرة (حارة التل أو الحارة الوسطى، حارة العين أو الحارة الجنوبية، حارة الفراديس أو الحارة الشرقية، حارة السقي الشمالي، الحارة الغربية أو حارة الدلة، ومنطقة الناحية التي تضم البريد ومركز الشرطة). حصرت حامية البلدة الدخول إليها من مداخل إلزامية مع انتشار كثيف للحواجز والكمائن الليلية والنهارية، تحسباً لأي هجوم مضاد قد تقوم به المعارضة المسلحة، التي لا تستخدم الطرقات المعبدة، بل تسير سياراتها الرباعية الدفع في البادية المنبسطة.
المستشفى و«لواء الأصالة والتنمية»!
اتخذ المسلحون من مستشفى صدد مركزاً عسكرياً. يقول أحد العاملين في المستشفى إن المسلحين «شحنوا» كلّ ما لا يلزمهم من أجهزة الأشعة وماكينات غسل الكلى وآلات أخرى في الساعات الأولى لدخول البلدة، ثمّ نقلوا أسرة وأجهزة تلزم في الإسعاف الأولي إلى منزل حولوه إلى مشفى ميداني، «هون بس بيسعفوا جريح، والحالات الحرجة بتروح على النبك»، يقول العامل. ويقول أحد العاملين أيضاً إنه سمع «الأمير» يصرخ على جهاز اللاسلكي أن الطائرات السورية قصفت قافلة الطاقم الطبي التابعة لـ«درع الإسلام»، وأنهم يحتاجون طاقماً جديداً. «فات علينا المسلحين وقالولي خبّوا الممرضات، جماعة النصرة ما بيحبوا يشوفوهن، وغمزوني»، في جعبة العامل نكتة أيضاً، «قِرِيت على صدر كم مقاتل «لواء الأصالة والتنمية!»، وتنمية والله». صدد تعود إلى الحياة شيئاً فشيئاً، لكن ما قبل غزوة «أبواب الله التي لا تغلق» كما سمتها المعارضة المسلحة لن يكون كما بعدها، المسالمون هنا لن يألوا جهداً في حمل السلاح من الآن فصاعداً.




هجوم على مهين

لم تنته الحرب على محاور صدد، بل لربما بدأت. أصوات القصف والقذائف يتردد صداها العنيف داخل بيوت البلدة، إذ بدأ الجيش السوري هجوماً ضخماً على بلدة مهين المجاورة، التي يفرض المسلحون الذين يسيطرون عليها حصاراً محكماً على مخازن الجيش فيها، ويحاولون جاهدين دخولها، لولا مقاومة حامية المخازن. وعمد الجيش منذ ما بعد ظهر أمس إلى قصف أهداف المسلحين في مهين بالدبابات والمدفعية الثقيلة والطائرات من دون توقف، واستمر القصف حتى كتابة هذه السطور، تمهيداً لدخول مهين في الساعات المقبلة وفك الحصار عن المخازن. وتقول المصادر العسكرية إن «المعارضة المسلحة حشدت قوات أيضاً في مهين من أكثر من منطقة محيطة بالقلمون وريف دمشق الشمالي الغربي بهدف السيطرة على المخازن»، وكذلك «أصبحت البلدة تجمعاً كبيراً لمن فرّ من صدد». ورمى الجيش على مدى الأيام الماضية مناشير يطلب فيها من المسلحين الاستسلام. وتقول مصادر أخرى من داخل بلدة مهين، إن «القسم الأكبر من الأهالي فرّ إلى بلدة القريتين المجاورة، بعد الأنباء عن معركة».




عادت صدد ولم يعد علاء نون


صور شهداء بلدة صدد والشهداء القوميين تملأ جدران البلدة، وكذلك قرى بلوزة وزيتا وحاويك في ريف القصير. قد يكون الشهداء والمفقودون والجرحى أرقاماً في سياق الحرب السورية المتعبة للناس الذين يسمعون أخبارهم عبر شاشة، لكنهم ليسوا كذلك عند أهلهم وأحبتهم. وهكذا هو حال علاء نون، فقد تحرّرت صدد، البلدة التي حمل لأجلها بندقيته، وهو لم يعد. سقط علاء والمجموعة التي كانت معه بين شهيد وجريح خلال الدفاع عن الحارة الشمالية، بعدما سيطر المسلحون على باقي البلدة وبقيت الحارة الشمالية، إثر إطلاق صاروخ على آليتهم. وجدت جثث الباقين من المجموعة، وبينهم الشهيد فضل الله فارس، الذي وجدت جثّته مع جثث عناصر الشرطة بعد دخول الجيش، ولم تظهر جثّة علاء. عُلّقت صور علاء، مع أقوال لزعيم حزبه أنطون سعاده عن الشهداء والأبطال، لكنّه ليس شهيداً بعد، بل في عداد المفقودين. أمّه تنتظره، وإخوته، ورفقاؤه بحثوا صدد شبراً شبراً ولم يجدوا أثراً له.
يقول شقيقه: «إذا علاء منصاب وبعدو عايش، ما بينخاف عليه، جبّار، بيتحمل جرحه وبيطيب، وإذا استشهد، الله يرحمو، بس بدنا نعرف مصيره».