لا شيء اسمه «المعركة المقبلة في القلمون»، على رغم الهياج الإعلامي المستمر منذ انتهاء الأعمال العسكرية الضخمة في مدينة القصير وريفها. كل يوم يمرّ تدور معركة، أو بالأحرى معارك، في منطقة القلمون السورية، أي سلسلة الجبال السورية الغربية الممتدّة من منطقة الدريج في الجنوب إلى حمص. وسلسلة الجبال هذه، يمكن تسميتها أيضاً سلسلة جبال لبنان الشرقية، التي تصل جبل الشيخ جنوباً بسهول حمص والسلمية في محافظة حماه شمالاً.قد تكون دمشق في أكثر أوقاتها راحةً لحركة الميدان، منذ بدأ الجيش السوري عملية الهجوم العكسي في تشرين الثاني من العام الماضي.

أحوال الغوطتين الشرقية والغربية تسير على قدمٍ وساق في خطة أمان العاصمة دمشق، وكذلك حمص، التي بسط الجيش السوري سيطرةً بنسبة 80% عليها بحسب مصادر عسكرية سورية. أمّا درعا، التي يعتبرها الجيش خاصرة رخوة في ظلّ استمرار تدفّق السلاح والمسلحين منها إلى ريف دمشق، فيجري العمل فيها حالياً على قطع طرق الإمداد، وتأمين مدينة درعا، ويأتي القصف العنيف المستمر منذ أسبوع لمعاقل مسلحي «جبهة النصرة» وتشكيلات «جيش الإسلام» في السياق نفسه، وكذلك إدلب التي تسير على خطى درعا. وتشرح المصادر أن وضع حلب وريفها يختلف تماماً عن باقي الجبهات، إذ يقتنع المعنيون في دمشق بأن معركة حلب لا تحسمها الدبابات والطائرات، بل الاتفاق السياسي، «الذي سيأتي عاجلاً أو آجلاً، وستضطر تركيا لإغلاق الحدود وعزل المسلحين على مختلف انتماءاتهم، قبل أن يبدأ الجيش السوري مطاردتهم في المناطق الشمالي الواسعة. وحتى ذلك الحين، سيحافظ الجيش على الأحياء المحررة من المدينة، وعلى طريق الوصول إليها، ومحاولة توسيع رقعة الامان قدر الإمكان، ومواصلة توجيه الضربات الأمنية أو عمليات القصف الدقيق لمخازن الأسلحة ومراكز القيادة والتحكم عند المسلحين».

ماذا عن القلمون؟

تقول المصادر إن الجيش يضع أولويات في اختيار معاركه، خصوصاً في منطقة شاسعة ومعقّدة كالقلمون، إذ يعمد إلى حسم المناطق التي «تشكل خطراً على مخازن أسلحة أو مطارات أو معسكرات رئيسية للجيش، وتلك التي تشكل خطراً على الطرقات الاستراتيجية، وثالثاً المناطق التي تشكل خطراً مباشراً على مدينة دمشق أو استراتيجياً على قلب وجغرافيا سوريا». لا شكّ في أن القلمون، وامتدادها اللبناني في بلدة عرسال وجرودها، باتت ملجأ لعددٍ غير قليل من عناصر المعارضة المسلحة السورية، على اختلاف تشكيلاتهم وكتائبهم، بدءاً بـ«جيش الإسلام» و«ألوية الفرقان» و«كتائب صقور الشام»، وليس انتهاءً بـ«جبهة النصرة» وبعض أفراد «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ومن يفرّ من المسلحين من معارك الغوطتين. ولا شكّ، أيضاً، في أن هذه المنطقة تشكّل عبئاً على الطريق الدولي بين مدينة دمشق من جهة، ومحافظة حمص من الجهة الأخرى، وتالياً محافظات حماه وحلب وإدلب وطرطوس واللاذقية. وبالتالي، فإن سيطرة الجيش على مفاصل القلمون أمر فائق الأهمية. وتشرح المصادر كيف أن عملية المقارنة بين معركة القصير وريفها وطريقة الحسم التي اعتمدت، لا تصلح في منطقة القلمون، ليس لاختلاف الجغرافيا والمساحة الشاسعة فحسب، بل أيضاً للظروف السياسية الحالية. إذ «كان حسم القصير نقطة البداية في عملية التحول السياسي وانقلاب المواقف الدولية لصالح النظام وحلفائه». في حين ان «أي معركة في القلمون في الظروف الحالية السياسية، قد تكون عامل انحدار في أوراق القوة السياسية قبل مؤتمر جنيف 2، في حال عُقد، بدل أن تكون عامل قوّة في حال تأخر الحسم، ولم يتمكن الجيش من تحقيق نتائج سريعة، وهو أمر متوقع في ظلّ المساحة الشاسعة والطبيعة الجغرافية القاسية»، بالإضافة إلى أن «قناعة القيادة العسكرية والحلفاء بأن أمور الميدان وصلت إلى مراحل متقدمة في السيطرة بعد تطوير الأداء جراء دراسات استخلاص العبر من المعارك على مدى العامين الماضيين وانكشاف تكتيكات المسلحين ومن يساعدهم».

العصا والجزرة

سواتر ترابية فقط هي ما يفصل بلدات القلمون عن المناطق التي تخضع لنفوذ القوات السورية. مدخل واحد لكل بلدة يشرف عليه عناصر الجيش السوري. يمنع خروج المتورطين والمطلوبين من هذه المناطق. وحدهم المدنيون يمكنهم الدخول والخروج عبر المعابر. دير عطية، فقط، تبدو واثقة ومرتاحة إلى وضعها الأمني وسط محيطها «القلموني» المتفجر، بدءاً من رنكوس المواجهة لسلسلة لبنان الشرقية وحتى الزبداني جنوباً، بالإضافة إلى البلدات الواقعة على مدخل دمشق الشمالي في اتجاه حمص.
يعمل الجيش السوري على قاعدة أن معركة كبرى ستحصل هنا، إذ يحشد قوات معدّة للقتال الجبلي في أكثر من منطقة، سواء في الشمال، وصولاً إلى الحدود اللبنانية من جهة الغرب، وكذلك في الجنوب من جهة وادي بردى ورنكوس، كما في الوسط، أي منطقة النبك. ورغم الحشد الكبير، يؤكّد معنيون بسير المعارك في القلمون، أن الجيش لا ينوي القيام بهجوم شامل كبير على منطقة بهذا الحجم مع خلفية إمداد لوجيستي جيدة كعرسال. وبالتوازي مع قوّة الجيش التي يصفها المصدر العسكري بـ«برميل البارود»، فإن «للجيش خططاً أخرى، كتقطيع الأوصال وحصار مناطق التجمع الكثيف للمسلحين، وسياسة العصا والجزرة مثالاً».
أسابيع ويملأ الثلج الطرقات الجبلية، وبحسب المصادر، فإن «العوامل المناخية تبدأ بالاشتداد أواخر تشرين الثاني المقبل في هذه المنطقة المرتفعة، فيتكفل الثلج بقطع 70% من طرق الإمداد للمسلحين، ومصدرها الرئيسي عرسال، بينما يتكفّل الطيران السوري ومرابض المدفعية وبطاريات الصواريخ بقطع الباقي، ما يوقع المسلحين تحت حصار الثلج والجيش، ويبقيهم في القرى».

نموذج تلفيتة

من رأى أهالي بلدة تلفيتة في الأسبوعين الماضيين يستقبلون جنود الجيش السوري بالأرز والأعلام السورية والأهازيج، يدرك ما يفكر فيه الجيش. يقول مصدر عسكري مطلع إن «الأهالي في كل مكان ملّوا من تصرفات المسلحين وتجاوزاتهم وصراعاتهم الداخلية، خصوصاً في القلمون، وبدأت البيئة الحاضنة تستعيد وعيها وتطالب المسلحين الغرباء بالخروج من القرى، ومن أبنائها تسليم أنفسهم وإيجاد حل مع الدولة لاستيعابهم، وهذا ما حصل في تلفيتة، التي سلم المسلحون من أبنائها أنفسهم للجيش، وتم طرد المسلحين الغرباء». يعوّل الجيش السوري، إذاً، على «تفكك البيئة الحاضنة للمسلحين بعد انكشاف زيفهم، كما أنهم يعلمون بأن الجيش سيستعيد القرى عاجلاً أو آجلاً، ومن لديه حس من الوطنية عليه حماية قريته من المعارك والدمار الذي قد يطالها في حال تعنّت المسلحين». ولا ينفي المصدر أن «جزءاً من المعطيات الحساسة تصلنا من الأهالي الذين ضاقوا ذرعاً باحتلال المسلحين لقراهم، فضلاً عن التسويات التي يطالب بها المسلحون مقابل تسليم مطلوبين آخرين خطرين ومقاتلين أجانب».
ويشرح المصدر كيف أن «عمليات القضم، التي أثبتت جدواها في مناطق الغوطتين، وفي مدينة حمص وريفها، هي الحلّ الأمثل لمنطقة في حجم القلمون، إذ يوفّر الجيش خسائره البشرية ويقلّص عدد الشهداء، كما أن الضغط والحصار يسمحان بحصول تسويات موضعية توفر حمامات الدماء والدمار الكبير ».
على أن آخر المعارك الحامية جرت في بلدة صدد ومحيطها قبل أن يستعيدها الجيش أول من أمس. وتشير المصادر إلى أن «أبرز أهداف المعارضة المسلحة من الدخول إلى صدد كان توسيع رقعة الاشتباك مع الجيش السوري تحسباً لأي عملية عسكرية كبرى ممكن أن تحصل، وأن المسلحين فوجئوا بقدرة الحسم الموضعي السريع». أما معلولا، فتقول المصادر إن «وضع البلدة الآن مستقر وآمن بنسبة كبيرة، غير أن المرحلة المقبلة لعمل الجيش في محيطها سيكون هدفه إبعاد خطر القناصين الذين يستهدفون البلدة وطريقها من التلال الواقعة خلف فندق «السفير» لجهة يبرود ويتمّ التعامل بالقوة القصوى مع مصادر القنص».
لن تكون معركة القلمون على شاكلة القصير إذاً. هي عملية قضم مبرمجة للقرى التي تقع تحت سيطرة المسلحين، إذ سيخضع بعضها للجيش بالتسويات، وبعضها بالقوّة. ولا جرس سيرنّ إيذاناً ببدء المعركة، فالمعركة لم تتوقّف أصلاً.



حزب الله لن يشارك

لا ينحصر تأثير وجود المسلحين في القلمون على سوريا، خصوصاً بعد وجود أدلة واعترافات عن تحوّل هذه المنطقة وامتدادها اللبناني في عرسال كنقطة انطلاق لتنفيذ عمليات أمنية في الضاحية الجنوبية وإطلاق صواريخ على قرى البقاع وداخل الأراضي اللبنانية. وعلى رغم الاستنفار الإعلامي على احتمال مشاركة حزب الله إلى جانب الجيش السوري في أي عمليات مرتقبة على السلسلة الشرقية، علمت «الأخبار» أن الحزب ليس في وارد القيام بأي نشاطات عسكرية هناك، إلّا في حال انتقل المسلحون إلى قرى البقاع ( التي للحزب وجود فيها) تحت ضربات الجيش السوري. وتؤكّد المصادر أن دخول المسلحين إلى عرسال لن يدفع أحداً إلى تحريك ساكن. وعلمت « الأخبار» أن تحضيرات ميدانية يجري الإعداد لها لحلفاء المعارضة السورية في لبنان لـ«عدم تمرير معركة القلمون كما مرّت معركة القصير من دون توّتر كبير في لبنان، عبر تحرّكات في الشمال والبقاع وعلى خطّ الساحل الجنوبي تربك حزب الله وحلفاء سوريا أمنياً وعسكرياً». أمّا طرابلس، التي لا تأثير ميدانياً مباشراً للقلمون عليها، فتقول المصادر إنها «تقع أيضاً في سياق توسيع رقعة الاشتباك من سوريا إلى العراق ولبنان».