اللاذقية | لطالما اشتهرت جبال الساحل السوري بغاباتها ذات الأشجار البرية المعمّرة، وبثروتها الحرجية الغنية، والمؤلفة من أشجار الصنوبر والسنديان والبلوط والكينا، وشجيرات البطم والغار وغيرها، التي تلف هذه الجبال بغطاء أخضر. سوريا التي اشتهرت أيضاً، في السابق، بهدوئها واستقرارها الأمني حتى وصلت إلى المرتبة الرابعة عالمياً، تفقد اليوم، وبالتزامن مع المواجهات العسكرية الجارية، جبالها الخضراء، إما لأن ظلال الغابات كانت مسرحاً لإحدى المعارك التي لم تنجُ منها، أو بتأثيرات الوضع الاقتصادي الصعب الذي جعل الناس يتهافتون عليها كالجراد على أبواب كل شتاء، لقطع الحطب دفعاً للبرد عنهم وعن أولادهم، بسبب صعوبة شرائهم المازوت الغالي الثمن.
وتشير إحصاءات أجريت عام 2007 الى أن مساحة الغابات في سوريا بلغت 232840 هكتاراً، 31% منها في محافظة اللاذقية، وتحديداً في الريفين الشمالي والشرقي اللذين شهدا مواجهات عسكرية تخللها حرق للأحراج الكثيفة خصوصاً ضمن ناحية كسب بالقرب من الحدود التركية، لمنع المسلحين المعارضين المتسللين من تركيا من الاستفادة منها كغطاء يخفي حركتهم. وكان الدخان المنبعث من هذه الحرائق يبلغ الأراضي التركية ويغطي أجزاء واسعة من الريف، وأحياناً تصل رائحته ودخانه إلى داخل المدينة.
خسارة هذه الغابات لا تعوض، فنباتاتها البرية يصل عمرها إلى مئات وحتى آلاف السنين، ولا تضاهى بالأشجار الحرجية الصناعية المنتجة في المشاتل، والتي غرست في أنحاء سوريا منذ ما يزيد على ستين عاماً لتدعيم الغطاء النباتي الطبيعي. كذلك فإن ريف طرطوس الذي يضم حوالى 8% من مساحة الغابات السورية، يشهد تراجعاً في غطائه النباتي، لكن بوتيرة أقل من جاره الشمالي.
المحافظة هادئة أمنياً، ما خلا قرية المتراس الواقعة جنوب شرق المحافظة التي تضم مسلحين معارضين في وسط مؤيّد للدولة. وقد حدثت في أحراج هذه القرية بعض الحرائق كما في أحراج الحصن الواقعة قرب الحدود اللبنانية، لكن السبب الرئيس في تراجع الغطاء النباتي في المحافظة هو قطع الأشجار للاستفادة منها في التدفئة وفي صناعة الفحم.
تبرز هذه الفائدة للأشجار الحرجية اليوم دون أي فائدة أخرى، وما يقطع في سنوات لن يبلغ ما ذهب في حريق ضخم واحد. السكان القرويون جددوا اعتمادهم على الحطب للسنة الثالثة على التوالي في التدفئة، بسبب غلاء المازوت وقلة توافره. فقد وصل سعر الليتر منه هذا العام إلى 65 ليرة سورية بعد أن كان في العام الماضي 36 ليرة و21 ليرة قبل عامين، فعادت مدفأة الحطب لتحتل مكان مدفأة المازوت في مشهد لم يعهده الأبناء، واستعاده الآباء بعد سنوات خلت. كذلك فإن الحطب يستخدم لطهي الطعام أحياناً على مواقد بنيت في أفنية بعض المنازل أو أمام مداخلها. لن يدقق موظف الأحراج كثيراً مع من يقطع الحطب للاستخدام المنزلي، يطلب منه فقط التوغل قليلاً في الحرج، كي لا يتعرض للمساءلة من رؤسائه. هو أيضاً في حال ليست أفضل من حالهم، لعله يستخدم الحطب في التدفئة مثلهم.
ومن المهن التي راجت أخيراً بيع الحطب، وهو عمل يقوم به شبان القرى ويؤمن لهم دخلاً مقبولاً. طن الحطب الذي يسهل قطعه، وخاصة إذا كان مشبعاً بالماء لكن يصعب نقله وتجميعه داخل الممرات الحرجية المتشابكة الأشجار، يباع بـ14000 ليرة سورية (حوالى 75 دولاراً) بعد أن تضاعف سعره عمّا كان عليه في العام الماضي. قابلت «الأخبار» أحد هؤلاء الشبان، وهو طالب جامعي، يعمل مع اثنين من رفاقه، ويعلم أنّ ما يقوم به مخالف للقانون وعقوبته السجن ودفع غرامة مالية تتناسب قيمتها مع وزن الحطب المقطوع، لكنه يبرر فعلته بأنّه لم يجد عملاً آخر يساعد به أهله في تحمل مصاريف دراسته. الشاب الذي طلب عدم ذكر اسمه، يشرح لـ«الأخبار» طبيعة عمله قائلاً: «موظفو الأحراج لا يأتون إلا في النهار، نحن نعمل في الليل، وأحياناً طوال الليل».
وعن مصير الحطب المقطوع يجيب: «يشتريه منا شخص من قرية قريبة، ويستخدمه في صناعة الفحم. يبيع الكيلوغرام الواحد بـ150 ليرة». لا توجد تقديرات رسمية تحدد مقدار الخسائر في هذا القطاع، لكن من الجلي أنها فادحة.
ففي ريف اللاذقية يمكن رؤية المساحات التي أتت عليها الحرائق في الجبال بشكل واضح للعيان، أما في ريف طرطوس فقليل من التوغل في أحد الأحراج يكشف عن مساحات خالية قطعت أشجارها حديثاً.