حلب - راحات الفلاحين السوريين المتشققة ستقبض على قمحهم هذا العام، كما لم يفعلوا منذ أكثر من نصف قرن، إذ لا يسود القلق مصير المحصول فحسب، بل سياسة الدعم، وسط اضطراب أمني جعل الريف مرتعاً للصوص وقطّاع الطرق.
انتهى موسم تسويق الحبوب. لم تُردّ كامل كمية الإنتاج إلى الصوامع الحكومية التي يقع الكثير منها في مناطق خرجت عن سيطرتها، لكنها لم تتسرّب خارج البلاد كما يسعى إلى ذلك بعض «الثوار». حوالى نصف الإنتاج الذي بلغ مليونين ونصف المليون طن وجد طريقه إلى صوامع الدولة.
محافظة الحسكة كانت الأكثر تسويقاً نحو الصوامع الحكومية، حيث تجاوزت الكمية المسوّقة مليون طن، قسم منها من إنتاج محافظة دير الزور. ورغم أن محافظة حلب تليها في حجم الإنتاج، كانت الكميات المسوّقة منها ضئيلة جداً لتحتل محافظة حماة المركز الثاني، حيث تسوّق فيها كميات كبيرة من محصولَي محافظتي إدلب وحلب.
وقال أبو ياسر، وهو فلاح في منطقة الخفسة القريبة من الفرات: «الأوضاع الأمنية سيئة جداً ولا يمكن ضمان وصول القمح إلى صوامع الدولة وتسلم ثمنه، لذلك قررتُ الاحتفاظ بالمحصول». بينما أشار حسين المجدمي، وهو فلاح من منطقة دير حافر، إلى أنّه اضطر إلى «دفع أتاوة للمسلحين من أقاربي لكي يسمحوا لي بنقل المحصول إلى محافظة حماه».
الصوامع المعدنية التي بنتها الحكومة في منطقة «عين العرب» منذ أكثر من عشر سنوات يسيطر عليها مسلحو «وحدات حماية الشعب الكردي» التابعين لحزب الاتحاد الديموقراطي، وقد تمّ تسويق الإنتاج بإشرافهم. أما الصوامع الضخمة في منبج، فهي مغلقة ببوابات إلكترونية، وينتشر في محيطها مسلحو كتائب متعددة أشهرها كتيبة «البرنس»، وهو أحد أرباب السوابق الذين انضمّوا إلى كتيبة إسلامية متشددة.
الإنتاج انخفض هذا العام نتيجة غلاء الوقود والاضطراب الأمني إلى نحو مليونين ونصف المليون طن، تم تسليم أقل من نصفها إلى الحكومة، وساهمت الإغراءات المالية والتسهيلات في رفع نسبة الكميات المسلّمة. فالمؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب جهّزت قبل بدء موسم التسويق مبلغ 60 مليار ليرة لدفع قيمة الكميات المسلّمة، وتم تسعير الكيلوغرام بين 35 و36 ليرة سورية. كذلك صدرت توجيهات عليا بعدم إجراء أي مقاصّة بين المبالغ المستحقة كثمن للقمح وبين ديون الفلاحين المتراكمة للمصارف الزراعية والدولة عموماً. وخصّصت مكافآت مالية لمَن يسلّم محصوله في محافظة أخرى مع دفع تكاليف النقل، الأمر الذي شجّع الكثيرين على إيصال كميات كبيرة إلى المناطق الآمنة.
وفي سراقب أجبر مسلحو «الهيئة الشرعية» الفلاحين على بيع القمح بسعر 26 ليرة سورية، وهو سعر يقل بنحو 35% عن السعر الحكومي، إلا أن غالبية الفلاحين رفضوا تسليم المحصول وقاموا بإخفائه وتخزينه ريثما تحين الفرصة لنقله إلى المناطق الآمنة في محافظة حماة القريبة.
التسويق يشمل الحبوب بأنواعها المختلفة، لكن الكميات المسلّمة من العدس والحمص لا تكاد تذكر، حيث تجاوز سعرها في السوق الاستهلاكية مئتي ليرة سورية لكل كلغ، أي أضعاف سعرها الحكومي، ما جعل بيعها للتجار أكثر ربحاً للفلاحين.
الإجراءات الحكومية الميسّرة للفلاحين، ورفع سعر القمح كان الهدف منهما، بحسب مصدر في اتحاد الفلاحين في حلب، تأكيد الثقة بين الدولة والفلاحين بأنها لن تتخلى عن دعم الفلاحين، وأنها الجهة الوحيدة التي تهتم بأمرهم، وأنها ضمانة الزراعة الوطنية التي تسعى القوى الظلامية الرجعية والإمبريالية للقضاء عليها، والتحكّم في رغيف الخبز السوري.
المصدر أشار، في حديثه مع «الأخبار»، إلى أنّ الحرص الحكومي على مصلحة مزارعي القمح هو لتأكيد أبويّة الدولة في التوجّه إلى البيئة الحاضنة للإرهاب والمسلحين والفصل بين الطرفين ومنع المسلحين من استقطاب الفئات الفلاحية الفقيرة.
سرقة الصوامع وتهريب قمحها إلى تركيا كان لهما أثر نفسي سلبي جداً لدى الفلاحين جعلهم يحقدون بشدة على المسلحين وهم يرونهم يسطون على ثمرة تعبهم وعامل الأمن الغذائي الأول الذي ساهموا في إنجازه، وهو الوحيد عربياً، وبيعه إلى دولة أجنبية ترسل الإرهابيين إلى سوريا.
مصدر في وزارة الزراعة السورية قال لـ«الأخبار» إنّ نجاح عملية التسويق أثبت للفلاحين والبيئة الوطنية التي ينتشر فيها الإرهابيون أنه لا بديل من الدولة لتحقيق مصالحهم، وأنها قوية بما يكفي لكي تبقى تزوّدهم بالبذار والأسمدة والقروض وتعفيهم من الفوائد وتؤجل ديونهم المستحقة، وأن العنف والإرهاب هما سبب المعاناة لا الدولة التي تولي الفلاحين اهتماماً كبيراً.
السياسات الليبرالية التي اتّبعتها الحكومة في عهد النائب الاقتصادي عبدالله الدردري، والتي كانت على حساب الفلاحين المنتجين، ساهمت قبل الاضطرابات الأمنية في خسائر فادحة للفلاحين نتيجة رفع أسعار المازوت وتخفيض الدعم للفلاحين، ما سبّب يباس عشرات آلاف الهكتارات المزروعة بالقمح والقطن في مناطق حلب والجزيرة خصوصاً، وتصاعد النقمة على الدولة.